نجاح القاري لصحيح البخاري

باب بيع الغرر وحبل الحبلة

          ░61▒ (باب بَيْعِ الْغَرَرِ) وهو بفتح الغين المعجمة وبراءين أولاهما مفتوحة، / وهو في الأصل الخَطَر، من غرَّ يغِرُّ _بالكسر_ والخَطَرُ هو الذي لا يدري أيكون أم لا. وقال ابن عرفة: الغَرَر: هو ما كان ظاهره يغرُّ وباطنه مجهولٌ، ومنه سمِّي الشَّيطان غروراً؛ لأنَّه يحمل على محابِّ النَّفس ووراء ذلك ما يسوء، قال: والغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه، وباطنه مكروهٌ أو مجهولٌ.
          وقال الأزهريُّ: بيع الغرر ما يكون على غير عهدةٍ ولا تبعةٍ، قال: ويدخل فيه البيوع الَّتي لا يحيط بكنهها المتبايعان، وقال صاحب «المشارق»: بيع الغَرَر بيع المخاطرة، وهو الجهلُ بالثَّمن أو المثمن أو سلامته أو أجله، وشري السَّمك في الماء نوعٌ من أنواع الغرر، وكذا الطَّير في الهواء والمعدوم والمجهول والآبق والجمل الشَّارد ونحو ذلك ممَّا لا يقدر على تسليمه حين العقد.
          وبيع حبل الحبلةِ والملامسة والمنابذة أيضاً من بيع الغرر لكن أفردت بالذكر؛ لأنَّها كانت من مشاهير بيوع الجاهلية، وحكى الترمذيُّ عن الشافعيِّ من أنَّ بيع السَّمك في الماء من بيوع الغرر وبيع الطير في السَّماء والعبد الآبق كذلك.
          وقال الشَّيخ زين الدين العراقي: ما حكاه الترمذيُّ عن الشافعيِّ من أنَّ بيع السَّمك في الماء من بيوع الغرر هو فيما إذا كان السَّمك في ماءٍ كثيرٍ بحيث لا يمكن تحصيله منه، وكذا إذا كان يمكن تحصيله ولكن بمشقَّةٍ شديدة، وأما إذا كان في ماءٍ يسيرٍ بحيث يمكن تحصيله منه من غير مشقَّةٍ فإنَّه يصحُّ؛ لأنَّه مقدورٌ على تسليمه وهذا كلُّه إذا كان مرئياً في الماء القليل بأن يكون الماء صافياً، فأمَّا إذا لم يكن مرئياً بأن يكون الماء كدراً فإنَّه لا يصحُّ بلا خلافٍ كما قاله النوويُّ والرافعيُّ.
          وقال العينيُّ: وبيع الآبق يصحُّ إذا كان البائع والمشتري يعرفان موضعه، كذا قاله أصحابنا، وقال الشيخ زين الدين: يدخل في بيع الطَّير في السَّماء بيع حمام البرج في حال طيرانه، وإنْ جرت عادته بالرُّجوع؛ لأنَّه يجوز أن لا يرجع، وذهب بعض أصحاب الشافعيِّ إلى صحَّة البيع لجريان العادة برجوعه.
          وأمَّا إذا كان في البروج فحكمه حكم بيع السَّمك في الماء اليسير، فإن كان فيه كوى مفتوحة لا يؤمن خروجه / لم يصحَّ، وإن لم يمكنه الخروج ولكن كان البرج كبيراً بحيث يحصل التَّعب والمشقَّة في تحصيله وتسليمه لم يصح أيضاً، قال: وفرَّق الأصحاب بين بيع الحمام في حال غيبته عن البرج وبين النحل في حال غيبته عن الكوارة، فصححوا المنع في حمام البرج وصححوا الصِّحَّة في بيع النحل.
          والفرق بينهما أنَّ الطير يعترضه الجوارح في خروجه بخلاف النحل. وقيَّد ابن الرفعة في المطلب صحة النحل فيما إذا كانت أم النَّحل في الكوارة فإذا لم تكن لا يصحُّ.
          (وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ) وسيجيء تفسيره إن شاء الله تعالى، والحَبَل: بفتح الحاء والموحدة، وحكى النَّووي: إسكان الموحدة، وغلَّطه (1) القاضي عياض وهو مصدر حَبِلَت تَحْبَل، وذكر ابنُ السِّكيت وأبو عبيد أنَّ الحبل يختصُّ بالآدميات، وإنما يقال في غيرهنَّ الحمل، قال ابن السِّكيت: إلَّا في حديث ((نهى عن بيع حبل الحبلة))، وذلك أن تكون الإبل حوابل فيبيع حبل ذلك الحبل. وفي «المحكم»: كلُّ ذات ظفرٍ حبلى قال الشاعر:
أَوْ ذِيخَةٌ حُبْلَى مُجِحٌّ مُقْرِبُ
          الذِّيْخ _بكسر الذال المعجمة وسكون المثناة التحتية وبالخاء المعجمة_: ذَكَر الضِّباع، والأنثى ذيخة، وقوله: مُجِحٌّ _بضم الميم وكسر الجيم وفي آخره حاء مهملة مشددة_ قال أبو زيد: قيس كلُّها تقول لكلِّ سَبُعَةٍ إذا حملت فأَقْرَبت وعَظُم بطنها: قد أَجَحَّت فهي مُجِح، والمقرِب _بكسر الراء_ إذا قربت ولادتها.
          وقال ابن دريد: يقال لكلِّ أنثى من الآدميين وغيرهم حبلت، وكذا ذكره الهرويُّ والأخفش في «نوادرهما».
          وفي «الجامع»: امرأةٌ حبلى وسنَّور حبلى، وأنشد:
إِنَّ فِي دَارِنَا ثَلاثَ حَبَالَى                     فَوَدِدْنا لَوْ قَدْ وَضَعْنَ جَمِيعا
جَارَتِي ثُمَّ هِرَّتِي ثَمُّ شَاتِي                     فإِذَا مَا وَضَعْنَ كُنَّ رَبِيْعا
جَارَتِي لِلْخَبِيصِ والهرُّ لِلفَأْرِ                     وَشَاتِي إِذا اشْتَهَيْت مَجِيعا
          وحكاه في «الموعب» عن صاحب «العين» والكسائي وهذا يَرُدُّ قول النووي: اتَّفق أهل اللُّغة أنَّ الحبل مختصٌّ بالآدميات، والمراد هنا بالحبل: ما في بطون النُّوق، وقد يدخل فيه الهاء للمبالغة، كما تقول: نُكَحة وسُخَرة، كذا قال صاحب «الغريبين».
          وقال صاحب «مجمع الغرائب»: ليس الهاء في الحبلة على قياس نُكَحة وسُخَرة إذ لا مبالغة هاهنا في المعنى، ولعل صاحب / «الغريبين» طلبَ لزيادة الهاء وجهاً فأطلق ذلك من غير ثبت.
          وفي «المُغرِب»: حَبَل الحَبَلة: مصدر حبلت المرأة، وإنَّما أدخلت التاء لإشعار الأنوثة؛ لأنَّ معناه أن يبيع ما سوف يحمله الجنين إن كان أنثى.
          وقال النوويُّ: الحبلة جمع: حابل، كظلمة وظالم، وكتبة وكاتب، وتبعه الحافظ العسقلانيُّ وتعقَّبه العينيُّ بأنه ليس كذلك، وقد قال ابن الأثير: الحَبَلة _بالتحريك_ مصدرٌ سمِّي به المحبول، كما سمِّي بالحمل المحمول، وإنَّما دخلت فيه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فيه إذ المراد بحبل الحبلة نَتَاج النَّتَاج وولد الجنين، وقد اختلفوا في معناه فقال الشافعيُّ: هو البيع بثمنٍ مؤجَّلٍ إلى أن تلدَ النَّاقة وتلد ولدها، وهو ما فسَّر به ابن عمر ☻ ، وقيل: هو بيع ولد ولد الناقة، وهذا أقرب لفظاً لكنَّ الأول أقوى؛ لأنَّه تفسير الراوي وهو أعرف به.
          قال المحقِّقون: تفسير الراوي مقدَّمٌ إذا لم يخالف الظاهر فإن قيل: تفسيره مخالفٌ للظاهر فالجواب أنَّ المراد بالظاهر الواقع، فإنَّ هذا البيع كان في الجاهلية بهذا الأجل فليس التفسير حلاًّ للَّفظ بل بياناً للواقع، وهذا البيع على التفسيرين باطل، أمَّا الأوَّل فلأنَّه بيع إلى أجلٍ مجهولٍ، والأجل يأخذ قسطاً من الثمن، وأمَّا الثاني فلأنَّه بيع معدوم، وسيأتي لهذا تفصيله إن شاء الله تعالى.
          والحاصل: أنَّ عطف بيع حبل الحبلة على بيع الغرر من عطف الخاصِّ على العام ولم يذكر في الباب بيع الغرر صريحاً، وكأنَّه أشار إلى ما أخرجه أحمد من طريق إسحاق: حَدَّثني نافع. وابن حبَّان من طريق سليمان التيميِّ، عن نافع، عن ابن عمر ☻ قال: ((نهى النَّبي صلعم عن بيع الغرر)).
          وقد أخرج مسلم النَّهي عن بيع الغرر من حديث أبي هريرة ☺، وابن ماجه من حديث ابن عباس ☻ ، وأحمد من حديث سهل بن سعد وابن مسعود ☻ مرفوعاً: ((لا تشتروا السمك في الماء فإنَّه غرر)).
          وقال النوويُّ: النَّهي عن بيع الغرر أصل من أصول البيع فيدخل تحته مسائل كثيرة جدًّا، واستثني من بيع الغرر أمور:
          أحدها: ما يدخل في البيع تبعاً فلو أفرد لم يصحَّ بيعه.
          والثاني: ما يتسامح بمثله إمَّا لحقارته، أو للمشقَّة في تمييزه وتعيينه.
          فمن الأوَّل / بيع أساس الدَّار والدَّابة التي في ضَرْعها اللَّبن والحامل.
          ومن الثَّاني: الحبة المحشوة والشرب من السَّقاء قال: وما اختلف فيه العلماء مبنيٌّ على اختلافهم في كونه حقيراً، أو يشقُّ تمييزه، أو تعيينه فيكون الغرر فيه كالمعدوم فيصح البيع وبالعكس، قال: ومن بيوع الغرر ما اعتاده النَّاس من الاستجرار من الأسواق بالأوراق مثلاً فإنَّه لا يصحُّ؛ لأنَّ الثمن ليس حاضراً فيكون من المعاطاة ولم يوجد صيغة يصحُّ بها العقد، انتهى.
          وقال العينيُّ: هذا الَّذي ذكره لا يعمل به؛ لأنَّ فيه مشقَّةً كبيرة على الناس وحضور الثَّمن ليس بشرطٍ لصحة العقد وبيع المعاطاة صحيح، وجميع الناس اليوم يتبايعون في الأسواق بالمعاطاة يأتي رجلٌ إلى بائعٍ فيشتري منه جملة قماش بثمنٍ معيَّنٍ فيدفع الثمن، ويأخذ المبيع من غير أن يوجد لفظ بعت واشتريت فإذا حكمنا بفساد هذا العقد يحصل فساد كثير في معاملات الناس، انتهى.
          ولا يذهب عليك أنَّ النَّووي لم ينكر صحَّة البيع بالمعاطاة، وإنما أنكر الاستجرار من الأسواق بالأوراق من غير إعطاء الثمن فتفطَّن (2)، وروى الطبريُّ عن ابن سيرين بإسنادٍ صحيحٍ قال: لا أعلم ببيع الغرر بأساً.
          قال ابن بطَّال: لعلَّه لم يبلغه النهي، وإلَّا فكلُّ ما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد لم يصحَّ، وكذلك إذا كان لا يصح غالباً، فإن كان يصحُّ غالباً كالثمرة في أول بدوِّ صلاحها، أو كان يسيراً تبعاً كالحمل مع الحامل جاز لقلة الغرر.
          ولعلَّ هذا هو الذي أراده ابن سيرين، لكن يمنع ذلك ما رواه ابن المنذر عنه أنَّه قال: لا بأس ببيع العبد الآبق إذا كان علمهما فيه واحداً، فهذا يدلُّ على أنَّه يرى بيع الغرر إن سلم في المآل، والله أعلم بحقيقة الحال.


[1] يقصد أن غلط القول بإسكان الموحدة وليس النووي لأنه مات بعده لما يزيد عن مائة سنة.
[2] في هامش الأصل: وجه التفطن هو أن الشافعية ينكرون بيع المعاطاة ولا يجيزونه، فافهم. منه.