نجاح القاري لصحيح البخاري

باب تفسير المشبهات

          ░3▒ (بابُ: تَفْسِيرِ الْمُشَبَّهَاتِ) بضم الميم وفتح الشين المعجمة والباء الموحدة المشددة، جمع: مشبَّهة، وهي التي فيها شبه طرفين متخالفين، فتشبه هذا مرَّة وذلك أخرى. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] أي: اشتبه، وفي رواية النسفيِّ: <الشُّبُهات> بضمتين بغير ميم، وفي رواية ابن عساكر: <المشتبهات> من اشتبه، من باب الافتعال.
          أراد المؤلِّف ☼ أن يُعرَف الطريقُ إلى معرفتها لتجتنب، فذكر أوَّلاً ما يضبطها، ثمَّ أورد أحاديث يؤخذ منها مراتب ما يجب اجتنابه منها، ثم ثنَّى ببابٍ فيه بيان ما يستحبُّ منها، ثم ثلَّث ببابٍ فيه بيان ما يكره، وشرح ذلك أنَّ الشيء إمَّا أن يكون أصله التَّحريم أو الإباحة أو يشكُّ فيه، كما مرَّ.
          فالأول: كالصيد فإنَّه يحرم أكله قبل ذكاته، فإذا شكَّ فيها لم يزل عن التَّحريم إلَّا بيقين، وإليه الإشارة بحديث عديِّ بن حاتمٍ ☺.
          والثاني: كالطَّهارة إذا حصلت لا ترفع إلا بيقين الحدث، وإليه الإشارة بحديث عبد الله بن زيد ☻ في الباب الثالث، ومن أمثلته: من له زوجةٌ أو عبدٌ وشكَّ هل طلَّق أو عتق، فلا عبرة بذلك، / وهما على ملكه.
          والثالث: ما لا يتحقَّق أصله، ويتردَّد بين الحظر والإباحة فالأولى تركه، وإليه الإشارة بحديث التمرة السَّاقطة في الباب الثاني، والله المستعان.
          (وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ) هو: حسَّان بن الحسن أو: الحسين بن أبي سِنَان _بكسر السين المهملة وتخفيف النون_ ينصرفُ ولا ينصرف، بناء على كونه من الحسن أو من الحسِّ، أبو عبد الله البصريُّ، أحد العبَّاد في زمن التابعين، وليس له في البخاريِّ سوى هذا الموضع.
          (مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَهْوَنَ مِنَ الْوَرَعِ، دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ) بفتح المثناة التحتية ويجوز الضم، يقال: رابه يَريبه، وأرابه يُريبه من الريب، وهو الشكُّ والتردد، والمعنى: إذا شككت في شيءٍ فدعه قاصداً إلى ما لا تشك فيه، وهذا التَّعليق رواه أحمد في «الزهد»، وأبو نُعيم في «الحلية» عنه بلفظ: إذا شككت في شيءٍ فاتركه.
          وروى أبو نُعيم من وجهٍ آخر، قال: حَدَّثنا محمد بن جعفر: حدَّثنا محمد بن أحمد بن عمرو: حدَّثنا عبد الرحمن بن عمر رُشْتَه، قال: حدَّثنا زهير بن نعيم البابيُّ، قال: اجتمع يونس بن عبيد وحسَّان بن أبي سنان، فقال يونس: ما عالجت شيئاً أشدَّ عليَّ من الورع، فقال حسَّان: ما عالجت شيئاً أهونَ عليَّ منه. قال يونس: كيف؟ قال حسَّان: تركت ما يريبني إلى ما لا يريبني فاسترحت.
          وأيضاً قال: حدَّثنا أبو بكر بن مالك: حدَّثنا عبد الله بن أحمد: حدَّثني الحسن بن عبد العزيز الجَرَوي، قال: كتب إلينا ضَمْرَة عن عبد الله بن شَوْذَب، قال: قال حسَّان بن أبي سنان: ما أيسر الورع إذا شككتَ في شيءٍ فاتركه.
          قال بعض العلماء: تكلَّم حسَّان على قدر مقامه، فالترك الذي أشار إليه أشدُّ على كثيرٍ من النَّاس من تحمُّل كثيرٍ من المشاقِّ الفعليَّة، وقد ورد قوله: ((دعْ ما يَريبك إلى مالا يَريبك)) مرفوعاً، أخرجه الترمذيُّ، والنسائيُّ وأحمد وابن حبَّان والحاكم من حديث الحسن بن عليٍّ ☻ ، وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيح، وقال الحاكم: صحيحُ الإسناد.
          وشاهده حديث أبي أمامة ☺: أنَّ رجلاً سأل رسول الله صلعم : ما الإيمان؟ قال: ((إذا سرَّتك حسنةٌ، وساءتْك سيِّئةٌ فأنت مؤمنٌ))، قال: يا رسول الله! ما الإثم؟ قال: ((إذا حكَّ (1) في صدرك شيءٌ فدعه)). /
          وفي الباب عن أنسٍ ☺ عند أحمد، ومن حديث ابن عمر ☻ عند الطبرانيِّ في «الصغير»، ومن حديث أبي هريرة وواثلة بن الأسقع ☻ ومن قول ابن عمر وابن مسعودٍ وغيرهما ♥ .
          وترك ما يُشَكُّ فيه أصلٌ عظيمٌ في الورع، وقد روى الترمذيُّ من حديث عطيَّة السعديِّ ☺ مرفوعاً: ((لا يبلغُ العبدُ أن يكون من المتَّقين حتىَّ يدعَ ما لا بأس به حذراً ممَّا به البأس)). وقد مرَّت الإشارة إليه في كتاب ((الأيمان)) [خ¦2/1-10].
          قال الخطابيُّ: كلُّ ما شككت فيه فالورع اجتنابه، ثمَّ هو على ثلاثة أقسام: واجبٌ ومستحبٌّ ومكروه، فالواجب: اجتناب ما يستلزم ارتكاب المحرَّم، والمستحبُّ: اجتناب معاملة من أكثر ماله حرامٌ، والمكروه: اجتنابُ الرُّخص المشروعةِ على سبيل التَّنطُّع كما مر، والله أعلم.


[1] في هامش الأصل: في نسخة: ((حاك)).