عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

بيان إعرابه
  
              

          بيانُ إعرابِهِ:
          قوله: (فَتَوَضَّأْ) الفاء فيه جوابٌ.
          قولُهُ: (رَغْبَةً وَرَهْبَةً) منصوبان على المفعولِ له على طريقةِ اللَّفِّ والنَّشر؛ أي: فوَّضْتُ أموري إليك؛ رغبةً، وألجأتُ ظهري عَنِ المكارِهِ والشدائدِ إليكَ؛ رهبةً منك؛ لأنَّه لا ملجأَ ولا مَنْجَى منكَ إلَّا إليكَ، ويجوز أن يكونَ انتصابُهما على الحال بمعنى: راغبًا وراهبًا.
          فَإِنْ قُلْتَ: كيف يُتصوَّرُ أن يكونَ راغبًا وراهبًا في حالةٍ واحدةٍ؛ لأنَّهما شيئان متنافيان؟!
          قُلْت: فيه حذفٌ؛ تقديرُهُ: راغبًا إليك، وراهبًا منكَ.
          [فَإِنْ قُلْتَ: إذا كانَ التَّقديرُ: راهبًا منك؛ كيف استُعمِلَ بكلمة (إلى)، والرهبةُ لا تُستعمَلُ إلَّا بكلمة (مِن) ؟].
          قُلْت: (إليك) مُتعلِّقٌ بـ(رغبةٍ)، وأعطى لـ(الرهبةِ) حكمَها، والعربُ تفعلُ ذلك كثيرًا؛ كقول بعضهم:
ورأيتُ بعلَكِ في الوغى                     مُتقلِّدًا سيفًا ورُمحًا
          والرُّمحُ لا يتقلَّدُ، وكقولِ الآخر:
علفتُها تِبنًا وماءً باردًا
          والماءُ لا يُعلَفُ.
          قوله: (لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى) إعرابُهما مثلُ إعرابِ (عصًا)، وفي هذا التَّركيبِ خمسةُ أوجهٍ؛ لأنَّه مثلَ: (لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله) والفرقُ بينَ نصبِهِ وفتحِهِ بالتنوين، وعند التنوينِ تسقطُ الألف، ثُمَّ إنَّهما إِن كانا مصدرَين؛ يتنازعان في (منك)، وإن كانا مكانَين؛ فلا؛ إذ اسمُ المكانِ لا يعملُ، وتقديره: لا ملجأَ منكَ إلى أحدٍ إلَّا إليك، ولا مَنْجَى إلَّا إليك.
          قوله: (آمَنْتُ بِكِتَابِكَ) أي: صدَّقتُ أنَّهُ كتابُكَ، وقوله: (الَّذِي أَنْزَلْتَ) صفتُه، وضميرُ المفعولِ محذوفٌ، والمراد بـ(الكتابِ) القرآنُ، وإِنَّما خصَّصَ الكتابَ بالصِّفةِ؛ ليتناولَ جميعَ الكتبِ المُنزلَةِ.
          فَإِنْ قِيلَ: أينَ العمومُ ههنا حَتَّى يجيءَ التخصيصُ؟
          قُلْت: المُفرَدُ المضافُ يُفيدُ العمومَ؛ لأنَّ المُعرَّفَ بالإضافةِ كالمُعرَّفِ باللَّامِ يحتمِلُ الجنسَ والاستغراقَ والعهدَ، فلفظُ (الكتاب) المضاف ههنا مُحتَمِلٌ لجميعِ الكتبِ ولجنسِ الكتبِ ولبعضِها كالقرآن، قالوا: [وجميعُ المعارفِ كذلك، وقد قال الزَّمَخْشَريُّ ☼في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ}[البقرة:6] في أَوَّل (البقرةِ) : يجوزُ أن يكونَ للعهدِ، وأن يُرادَ بهم ناسٌ بأعيانَهم؛ كأبي جهلٍ وأبي لهبٍ والوليدِ بنِ المغيرةِ وأضرابِهم، وأن يكونَ للجنسِ متناولًا منهم كلَّ مَن صمَّم على كفره، انتهى.
          قُلْت: التحقيقُ أنَّ الجمعَ المُعرَّفَ تعريفَ الجنسِ معناه: جماعةُ الآحادِ؛ وهي أعمُّ مِن أن يكونَ جميعَ / الآحادِ أو بعضها، فهو إذا أُطلِقَ؛ احتمل العمومَ والاستغراقَ، واحتمل الخصوصَ، والحملُ على واحدٍ منهما يتوقَّفُ على القرينةِ كما في المُشترَك، هذا ما ذهبَ إليه الزَّمَخْشَريُّ وصاحبُ «المفتاح» ومَن تبِعَهُما، وهو خلافُ ما ذهبَ إليه أئِمَّةُ الأصولِ.