عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل
  
              

          ░37▒ (ص) بَابُ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأ إِلَّا مِنَ الْغَشْيِ الْمُثْقِلِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ مَن لم يرَ الوضوءَ إلَّا مِنَ (الغَشْيِ) بفتح الغين المُعْجَمة، وسكون الشين المُعْجَمة، وفي آخره ياءٌ آخرَ الحروف، يقال: غُشيَ عليه غشيةً وغَشْيًا وغشْيَانًا، فهو مَغشِيٌّ عليه، و(الغَشيُ) مَرَضٌ يعرضُ مِن طول التَّعبِ والوقوفِ، وهو ضَرْبٌ مِنَ الإغماء، إلَّا أنَّهُ أخفُّ منه، وقال صاحب «العين»: غُشِيَ عليه: ذهبَ عقلُهُ، وفي القرآن: {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}[الأحزاب:19]، وقال تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}[يس:9].
          قوله: (الْمُثْقِلِ) بِضَمِّ الميم، مِن أثقلَ يُثقِلُ إثقالًا، فهو مُثقِل؛ بكسر القاف للفاعل، وبفتحها للمفعول، وهو صفة (الغَشْي).
          فَإِنْ قُلْتَ: كيف يجوز هذا الحصرُ وللوضوء أسبابٌ أُخَرُ غيرُ الغشي؟
          قُلْتُ: أينما يقعُ مثلُ هذا الحصرِ؛ فالمرادُ أنَّهُ ردٌّ لاعتقاد السامعِ حقيقةً أو ادِّعَاءً، فكأنَّ ههنا مَن يعتقدُ وجوبَ الوضوءِ مِنَ الغشي مطلقًا، سواء كان مُثقلًا أو غيرَ مُثقِل، وأشركهما في الحكم؛ فالمتكلِّم حَصَر على أحدِ النَّوعين مِنَ الغشي، [فأفرده بالحُكمِ مزيلًا للشركة، ومثلُه يُسمَّى قصرَ الإفرادِ، ومعناه: من لم يتَوَضَّأ إلَّا مِنَ الغشيِ] المثقِلِ، لا مِنَ الغشي الغيرِ المثقِلِ، وليس المعنى: من تَوَضَّأَ مِنَ الغشيِ المثقِلِ، لا مِن سببٍ آخَرَ مِن أسبابِ الحَدَثِ، وجوابٌ آخَرُ: أنَّهُ استثناءٌ مفرَّغٌ، فلا بدَّ مِن تقدير المستثنى منه مناسبًا له؛ فتقديره: مَن لم يتوضَّأْ مِنَ الغشيِ إلَّا مِنَ الغشيِ المثقِلِ.
          والمناسبة بين البابين مِن حيثُ إنَّ في الباب السابق عدمَ لزوم الوضوءِ عندَ القراءة، وههنا عدم لزومه عند الغشيِ الغيرِ المثقِلِ.