عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة
  
              

          ░43▒ (ص) بَابُ وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ.
          (ش) أي: هذا بَابٌ في بيانِ حكمِ وُضُوءِ الرجل مع امرأتِهِ في إناءٍ واحدٍ، و(الوُضُوءُ) في الموضعين بِضَمِّ الواو، وفي الثاني: بالفتح؛ لأنَّ المراَد مِنَ الأَوَّل الفعلُ، ومِنَ الثاني الماءُ الذي يُتَوَضَّأ به.
          قوله: (وَفَضْلِ) بالجرِّ عطفًا على قوله: (وُضُوءِ الرَّجُلِ) وفي بعض / النُّسَخ: <بابُ وضوء الرَّجل مع المرأة> وهو أعمُّ مِن أن تكون امرأته أو غيرها.
          (ص) وَتَوَضَّأَ عُمَرُ ☺ بِالْحَمِيمِ وَمِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ.
          (ش) هذا الأثرُ المُعلَّقُ ليس له مطابقةٌ للترجمة أصلًا، وهذا ظاهرٌ كما ترى.
          وقال بعضهم: ومناسبتُه للترجمة مِن جهة أنَّ الغالبَ أنَّ أهلَ الرجُلِ تبعٌ له فيما يفعلُ، فأشار البُخَاريُّ إلى الرَّدِّ على مَن منع المرأةَ أن تتطهَّر بفضلِ الرجلِ؛ لأنَّ الظاهر أنَّ امرأةَ عمرَ ☺ كانت تغتسلُ بفضله أو معه، فناسبَ قوله: (وُضوء الرَّجلِ معَ امرأتِهِ) أي: مِن إناءٍ واحدٍ.
          قُلْت: مَن له ذوقٌ أو إدراكٌ يقول هذا الكلامَ البعيدَ؟! فمرادُه مِن قوله: (إنَّ أهلَ الرجل تبَعٌ له فيما يفعل) : في كلِّ الأشياء أو في بعضها؟ فإن كان الأَوَّلَ؛ فلا نسلِّمُ ذلك، وإن كان الثانيَ؛ فيجبُ التَّعيينُ.
          وقوله: (لأنَّ الظاهر...) إلى آخره: أيُّ ظاهر دلَّ على هذا؟! وهل هذا إلَّا حدسٌ وتخمينٌ؟!
          وقال الكَرْمَانِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: ما وجهُ مناسبتِهِ بالترجمة؟ قُلْتُ: غرضُ البُخَاريِّ في هذا الكتابِ ليسَ مُنحَصِرًا في ذكر متونِ الأحاديثِ، بل يريدُ الإفادةَ أعمَّ مِن ذلك؛ ولهذا يذكر آثارَ الصحابة ♥ ، وفتاوى السلف وأقوالَ العلماء، ومعاني اللَّغاتِ وغيرها، فقصد ههنا بيانَ التَّوضُّؤِ بالماء الذي مسَّته النَّارُ وتسخَّن بها بلا كراهةٍ؛ دفعًا لما قال مجاهدٌ.
          قُلْت: هذا أعجبُ مِنَ الأَوَّل وأغربُ، وكيف يطابقُ هذا الكلامُ وقَد وضع أبوابًا مترجمةً، ولا بدَّ مِن رعاية تطابقٍ بينَ تلك الأبوابِ وبين الآثارِ التي يذكرُها فيها، وإلَّا؛ يعدُّ مِن التَّخابيطِ؟! وكونُهُ يذكرُ فتاوى السَّلفِ وأقوالَ العلماء ومعانيَ اللُّغاتِ لا يدلُّ على ترك المناسبات والمطابقات، وهذه الأشياءُ أيضًا إذا ذكرت بلا مناسبةٍ؛ يكونُ الترتيبُ مخبطًا، فلو ذكر شخصٌ مسألةً مِنَ (الطلاقِ) مثلًا في (كتاب الطهارة)، أو مسألةً مِن (كتاب الطهارة) في (كتاب العتاق) مثلًا؛ نُسِبَ إليه التخبيطُ.
          ثُمَّ هذا الأثرُ الأَوَّلُ وصله سعيدُ بنُ منصورٍ وعبدُ الرَّزَّاقِ وغيرُهما بإسنادٍ صحيحٍ بلفظ: (أنَّ عمرَ ☺ كانَ يتَوَضَّأ بالحميم، ثُمَّ يغتسل منه)، [ورواه ابن أبي شَيْبَةَ والدَّارَقُطْنيُّ بلفظ: (كان يسخَّنُ له ماءٌ في حميمٍ، ثُمَّ يغتسلُ منه) ]، قال الدَّارَقُطْنيُّ: إسنادُهُ صحيحٌ.
          قوله: (بِالْحَمِيمِ) بفتح الحاء المُهْمَلةِ: وهو الماء المُسخَّن، وقال ابن بَطَّالٍ: قال الطَّبَريُّ: هو الماء السَّخين، «فعيل» بمعنى مفعولٍ، ومنه سُمِّي الحمَّام حمَّامًا؛ لإسخانه مَن دخله، والمحمومُ محمومًا؛ لسخونةِ جسدِهِ، وقال ابن المُنذِر: أجمعَ أهلُ الحجاز وأهلُ العراق جميعًا على الوضوءِ بالماء المسخَّن غيرَ مجاهدٍ، فَإِنَّهُ كرهه، رواه عنه ليثُ بنُ أبي سُلَيم، وذكر الرافعيُّ في كتابه: أنَّ الصحابة تطهَّروا بالماء المسخَّن بين يدي رسولِ الله صلعم ، ولم يُنكِر عليهم هذا الخبرَ، وقال المحبُّ الطَّبَريُّ: لم أره في غير الرافعيِّ.
          قُلْت: قد وقع ذلك لبعض الصحابةِ فيما رواه الطبرانيُّ في «الكبير» والحسنُ بنُ سفيانَ في «مسنده» وأَبُو نُعَيْمٍ في «المعرفة»، والمشهورُ مِن طريقِ الأسلعِ بنِ شَرِيكٍ قال: كنتُ أرحِّلُ ناقةَ رسول الله صلعم ؛ فأصابتني جنابةٌ في ليلةٍ باردةٍ، وأراد رسول الله صلعم [الرحلة، فكرهتُ أن أرحِّلَ ناقةَ رسولِ الله صلعم ] وأنا جنُبٌ، وخشيتُ أن أغتسلَ بالماء البارد، فأموتَ أو أمرضَ، فأمرتُ رجلًا مِنَ الأنصار يُرحلِّها، ووضعتُ أحجارًا فأسخنت بها ماءً فاغتسلت، ثُمَّ لحقت رسولَ الله صلعم ، فذكرت ذلك له؛ فأنزل اللهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} إلى: {غَفُورًا}[النساء:43]، وفي سنده: (الهيثمُ بنُ زُرَيقٍ الراوي له عَن أبيه عَنِ الأسلعٍ) مجهولان، والعلاءُ بنُ الفضل راويه عن الهيثمِ فيه ضعفٌ، وقد قيل: إنَّهُ تفرَّد به، وقد روي ذلك عَن جماعةٍ مِنَ الصحابة؛ منهم: عُمَر بن الخَطَّاب ☺ كما ذكره البُخَاريُّ، ومنهم: سلمةُ ابن الأكوعِ أنَّهُ كان يُسخِّنُ الماءَ يتَوَضَّأ به، رواه ابنُ / أبي شَيْبَةَ [بإسنادٍ صحيحٍ، ومنهم: ابنُ عَبَّاس ☻: (أنَّهُ قال: إنَّا نتَوَضَّأُ بالحميمِ وقد أُغلِي على النَّارِ)، رواه ابن أبي شَيْبَةَ] في «مُصنَّفه» عَن مُحَمَّدِ بنِ بشرٍ عَن مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو: حَدَّثَنَا أبو سلمةُ قال: قالَ ابنُ عَبَّاسٍ، ومنهم: ابنُ عمرَ، ☻، رواه عبدُ الرَّزَّاق عَن مَعْمَرٍ عن أيُّوب عن نافعٍ: أنَّ ابنَ عمرَ كان يتَوَضَّأ بالحميم.
          قوله: (وَمِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ) هو الأثرُ الثاني، وهو عطفٌ على قولِهِ: (بالحميمِ) أي: وتَوَضَّأ عمرُ مِن بيت نصرانيَّةٍ، ووقع في رواية كريمةَ بحذف الواو مِن قوله: (ومِن بيتِ) وهذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّهما أثران مستقلَّان؛ فالأَوَّل ذكرناه، والثاني الذي علَّقه البُخَاريُّ وصلَه الشَّافِعِيُّ وعبدُ الرزَّاقِ وغيرُهما عن سفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ عن زيدِ بنِ أسلمَ عَن أبيه: (أنَّ عمرَ تَوَضَّأ مِن ماء نصرانيَّةٍ في جرِّ نصرانيَّة)، وهذا لفظ الشَّافِعِيِّ، وقال الحافظ أبو بكرٍ الحازميُّ: رواه خلَّاد بنُ أسلمَ عَن سفيانَ بسندِهِ فقال: (ماء نصرانيِّ) بالتذكير، والمحفوظ ما رواه الشَّافِعِيُّ: (نصرانيَّة) بالتأنيث، وفي «الأمِّ» للشافعي: (مِن جرَّة نصرانيَّة) بالهاء في آخرها، وفي «المُهذَّب» لأبي إسحاقَ: (جرِّ نصرانيٍّ)، وقال: صحيحٌ، وذكر ابنُ فارسٍ في «حلية العلماء»: هذا سلاخة عرقوبِ البعيرِ يُجعَلُ وعاءً للماءِ.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما وجهُ تطابقِ هذا الأثرِ للتَّرجمة؟
          قُلْت: قال الكَرْمَانِيُّ: [بناءً على حذفِ واوِ العطفِ مِن قوله: «ومن بيتِ نصرانيَّةٍ»، ومعتقدًا أنَّهُ أثرٌ واحدٌ، لمَّا كانَ هذا الأخيرُ الذي] هو مناسبٌ لترجمة البابِ مِن فعلِ عمرَ ☺ ؛ ذكرَ الأمرَ الأَوَّلَ أيضًا وإن لم يكن مناسبًا لها؛ لاشتراكهما في كونهما مِن فعله؛ تكثيرًا للفائدة واختصارًا في الكتاب، ويحتمل أن يكونَ هذا قضيَّةً واحدةً؛ أي: تَوَضَّأ مِن بيتِ النَّصرانيِّة بالماء الحميم، ويكونَ المقصودَ ذكرُ استعمالِ سؤرِ المرأة النصرانيَّة، وذكر الحميم إِنَّما هو لبيان الواقع، فتكون مناسبتُه للتَّرجمة ظاهرةٌ.
          قُلْت: هذا منه؛ لعدم اطِّلاعه في كتب القومِ، فظنَّ أنَّهُ أثرٌ واحدٌ، وقد عرفتَ أنَّهما أثران مستقلَّان، ثُمَّ ادَّعى أنَّ الأمرَ الأخيرَ مناسبٌ للترجمة، فهيهات أن يكونَ مناسبًا؛ لأنَّ البابَ في (وضوء الرَّجلِّ مع امرأته، وفضل وضوء المرأة)، فأيُّ واحدٍ مِن هذين مناسبٌ لهذا؟ وأيُّ واحدٍ مِن هذين يدلُّ على ذلك؟ أَمَّا توضُّؤ عمرَ بالحميم؛ فلا يدلُّ [على شيء مِن ذلك ظاهرًا، وأَمَّا توضُّؤه مِن بيت نصرانيَّةٍ؛ فهل يدلُّ على أنَّ وضوءَه كانَ مِن فضلِ هذه النصرانيَّة؟ ولا يدلُّ] ولا يستلزِمُ ذلك، فمَنِ ادَّعى ذلك؛ فعليه البيانُ بالبرهان.
          وقال بعضُهم: الثاني مناسبٌ لقوله: «وفضل وَضُوءِ المرأةِ»؛ لأنَّ عمرَ ☺ تَوَضَّأ بمائها، وفيه: دليلٌ على جواز التطهُّر بفضل وَضُوءِ المرأةِ المسلمةِ؛ لأنَّها لا تكونُ أسوأَ حالًا مِنَ النَّصرانيَّة.
          قُلْت: الترجمة: (فضلُ وَضُوءِ المرأةِ) والنصرانيَّةُ هل لها فضلُ وَضُوءٍ حَتَّى يكونَ التطابُقُ بينه وبينَ الترجمة؟! فقولُهُ: (مِن بيتِ نصرانيَّة) لا يدلُّ على أنَّ الماءَ كان مِن فَضلَةِ استعمالِ النصرانيَّةِ، ولا أنَّ الماءَ كانَ لها.
          فَإِنْ قُلْتَ: في رواية الشَّافِعِيِّ: (مِن ماء نصرانيَّةٍ في جرِّ نصرانيَّة).
          قُلْت: نعم؛ ولكن لا يدلُّ على أنَّهُ كانَ مِن فضلِ استعمالِها، والذي يدلُّ على هذا الأثر جوازُ استعمالِ مياهِهم، ولكن يُكرَهُ استعمالُ أوانيهم وثيابِهم، سواءٌ فيه أهلُ الكتاب وغيرُهم، وقالتِ الشَّافِعِيَّةُ: وأوانيهم المستعملةُ في الماءِ أخفُّ كراهةً، فإن تُيُقِّن طهارةُ أوانيهم أو ثيابِهم؛ فلا كراهةَ إذًا في استعمالها، قالوا: ولا نعلمُ فيها خلافًا، وإذا تَطهَّرَ مِن إناءِ كافرٍ، ولم يَتيقَّن طهارتَه [ولا نجاستَه؛ فإن كان مِن قومٍ لا يتديَّنون باستعمالها؛ صحَّت طهارتُه] قطعًا، وإن كان مِن قومٍ يتديَّنون باستعمالها؛ فوجهان؛ أصحُّهما: الصِّحَّة، والثاني: المنع، وممَّن كانَ لا يرى به بأسًا الأوزاعيُّ والثَّوْريُّ وأبو حنيفةَ والشَّافِعِيُّ وأصحابُهما، وقال ابنُ المُنذِرِ: ولا أعلمُ أحدًا كَرِهَه إلَّا أحمدَ وإسحاقَ.
          قُلْت: وتبعهما أهلُ الظَّاهرِ، واختلف قول مالكٍ في هذا؛ / ففي «المُدوَّنة»: لا يتَوَضَّأ بسؤرِ النَّصرانيِّ، ولا بماءٍ أدخلَ يدَه فيه، وفي «العُتبيَّة»: أجازه مَرَّةً وكرِهَه أخرى، وقال الشَّافِعِيُّ في «الأمِّ»: لا بأسَ بالوضوء مِن ماءِ المُشرِكِ وبفضلِ وَضُوئِهِ ما لم يعلم فيه نجاسة، وقال ابن المُنذِرِ: انفردَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ بكراهةِ فضلِ المرأةِ إذا كانت جُنُبًا.