عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال
  
              

          ░19▒ (ص) بابٌ: لا يُمْسِكُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ إِذا بالَ.
          (ش) أي: هذا بابٌ فيه بيانُ حُكمِ مَسِّ الذَّكَرِ باليمين [وقتَ البولِ، و(بابٌ) مُنَوَّنٌ غيرُ مضافٍ، ووجه المناسَبَةِ بين البابين ظاهِرٌ].
          وقالَ بَعضُهُم: أشارَ بهذه التَّرجَمَةِ إلى أنَّ النهيَ المطلَقَ عن مَسِّ الذَّكَرِ باليمينِ _كما في البابِ الذي قبله_ مَحمولٌ على المُقَيَّدِ بحالَةِ البَولِ، فيكونُ ما عداهُ مُباحًا.
          قلتُ: هذا كلامٌ فيهِ خباطٌ؛ لأنَّ الحاصِلَ مِن معنَيَي الحدِيثَينِ واحِدٌ، وكلاهما مقيَّدٌ:
          أمَّا الأوَّل: فلأنَّ إتيانَ الخلاءِ في قولِهِ: «وإذا أَتَى الخلاءَ؛ فلا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بيمينِهِ» كنايَةٌ عن التَّبوُّلِ، والمعنى: إذا بالَ أحدكُم؛ فلا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، والجزاء قيدُ الشَّرْطِ.
          وأمَّا الثاني: فهو صريحٌ بالقَيدِ، وكلاهما واحدٌ في الحقيقَةِ، فكيف يقولُ هذا القائل: إنَّ ذاك المطْلَق محمولٌ على المقيَّدِ، والمفهومُ منهما جميعًا النَّهيُ عن مسِّ الذكر باليَمينِ عند البَولِ، فلا يدلُّ على مَنْعِهِ عند غيرِ البولِ، ولا سيَّما جاء في الحديث ما يدلُّ على الإباحَةِ؛ وهو قوله صلعم لطَلْق بن عَليٍّ حينَ سأله عن مَسِّ ذَكَرِه: «إنَّما هو بضعَةٌ مِنْكَ»، فهذا يَدلُّ على الجوازِ في كلِّ حالٍ، ولكن خَرَجَتْ حالةُ البَولِ بهذا الحديث الصَّحيحِ، وما عدا ذلك؛ فَقَدْ بَقِيَ على الإباحَةِ؛ فافهمْ.
          فإنْ قُلتَ: فما فائِدَةُ تخصيصِ / النَّهي بحالَةِ البولِ؟
          قلتُ: ما قرب مِن الشيء يأخُذُ حُكمَهُ، ولمَّا مُنِعَ من الاستنجاءَ باليمينِ؛ مُنعَ مَسَّ آلَتِهِ؛ حسمًا للمادَّةِ.
          فإنْ قلتَ: إذا كان الأمرُ على ما ذكرتَ مِن الردِّ على القائِلِ المذكور؛ فما فائِدَةُ ترجمة البُخاريِّ بالحديثِ في بابين، ولم يكتفِ ببابٍ واحدٍ؟
          قلتُ: فائدتُهُ مِن وجوهٍ:
          الأوَّل: التَّنبيهُ على اختلافِ الإسناد.
          الثاني: التَّنبيهُ على الاختلافِ الواقعِ في لَفْظِ المتْنِ؛ فإنَّ في السَّنَدِ الأوَّل: «إذا أتى الخلاءَ؛ فلا يَمَسَّ ذكرهُ بيمينِهِ»، وفي الإسنادِ الثاني: «إذا بالَ أحدُكم؛ فلا يأخذنَّ ذَكَرَهُ بيَمينِهِ»، ولا يخفى التفاوتُ الذي بين (إذا أَتَى الخلاء) وبين (إذا بالَ)، وبين (فلا يَمَسَّ ذَكرهُ) و(فلا يأخذنَّ ذَكرَهُ) وأيضًا، ففي الحديثِ الأوَّل: «ولا يتَمَسَّح بيمينِهِ»، وفي هذا الحديث: «ولا يستَنْجِي بيَمينِهِ»، [وهذا يُفسِّرُ ذاكَ؛ فافهمْ.
          الثالثُ: أنَّهُ عَقدَ البابَ الأوَّلَ على الحُكْم [الثَّالِثِ مِن الحديثِ؛ وهو كراهَةُ الاستنجاءِ باليَمينِ]، وعقدَ هذا الباب على الحكم]
الأوَّل؛ وهو كراهَة مسِّ الذَّكَرِ عند البولِ، ومِن أَبْيَنِ الدلائل على هذا الوجه أنَّهُ عقَدَ بابًا آخرَ في (الأشربَةِ) على الحكم الأوَّل؛ وهو كراهَة التَّنفُّسِ في الإناءِ.