عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما جاء في الوضوء
  
              

          ░1▒ (ص) بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ ╡ : {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[المائدة:6].
          (ش) هكذا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الصَّحيحَةِ، وهي روايَةُ الأَصِيْلِيِّ، وفي روايَةِ كريمة: <بابٌ في الوُضوءِ، وقول اللهِ ╡ : / [{إِذَا قُمْتُمْ}...> إلى آخره.
          ووقَعَ في أصلِ الدِّمياطِيِّ: (بابُ ما جاءَ في الوُضوءِ، وقول الله ╡ ]
...)، وعليه مَشى ابن بَطَّالٍ في «شَرْحِهِ»، وكذا مَشَى عليه الكَرْمَانِيُّ في «شَرْحِهِ»، غيرَ أنَّ قَبْلَهُ: (كتاب الطهارَةِ)، وكذا في «شَرْحِ الحافظ مُغْلَطاي»: (كتاب الطهارة) موضع (كتاب الوضوء).
          ثُمَّ قولُهُ: (بابٌ) مَرفوعٌ على أنَّهُ خَبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ مضاف إلى ما بَعْدَهُ، والتقديرُ: هذا بابٌ في بيانِ ما جاءَ في قولِ الله ╡ ...، [وأشارَ بِهِ إلى ما جاءَ مِن اختلافِ العلماءِ في معنى قوله ╡ ]: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}[المائدة:6]؛ هل فيهِ تقديرٌ أو الأمرُ على ظاهِرِهِ وعُمومِهِ، على ما نُبيِّنَهُ إنْ شاءَ الله تعالى؟
          الكلام في هذه الآية الكريمة
          فنقولُ: الكلامُ في هذه الآية الكريمة على أنواعٍ:
          سبب الافتتاح بها
          الأوَّل: افْتَتَحَ (كتاب الوضوء) بهذه الآية؛ لكونِها أصلًا في استنباطِ مسائلِ هذا الباب، أو لأجلِ التَّبَرُّكِ في الافتتاحِ بآيةٍ مِن القرآنِ وإنْ كانَ حقُّ الدليلِ أنْ يُؤخَّرَ عنِ المدلولِ؛ لأنَّ الأصلَ في الدعوى تقديمُ المُدَّعي.
          في بيان ألفاظ هذه الآية.
          الثاني: في بيانِ ألفاظِ هذه الآية:
          فقولُهُ: (يَا) حَرفُ نداءٍ [للبعيدِ؛ حَقيقةً أو حُكمًا، وقد يُنادى به القَريب؛ توكيدًا، وقيل: هِي مُشتركَةٌ بين البعيدِ والقريبِ، وقيل: بينهما وبينَ المتوسِّطِ، وهي أكثرُ حروفِ النِّداء] استعمالًا؛ ولهذا لا يُقَدَّرُ عند الحذفِ سواها؛ نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}[يوسف:29]، ولا يُنادى اسم الله تعالى والاسم المستغاثُ وأيُّها وأيَّتُها إلَّا بها، ولا المندوب إلَّا بها أو بِـ(وَا).
          وقولُ مَنْ قالَ: (إنَّ «يا» مُشْتَرِكَةٌ بين القريبِ والبَعيدِ) [هو الأصحُّ؛ لأنَّ أصحابَ اللُّغَةِ ذَكَرُوا أنَّ (يا) حَرفٌ يُنَادَى بِهِ القَريبُ والبَعيدُ].
          فَإِنْ قُلتَ: ما تقولُ في قولِ الداعي: (يا ألله) وَقَد قال الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16
          قلتُ: هذا استقصارٌ منهُ لِنَفْسِهِ، واستبعادٌ عن مَظانِّ القَبولِ لعَمَلِهِ.
          و(أيُّ) : اسمٌ يأتِي لِخَمْسَةِ مَعانٍ:
          الأوَّل: للشَّرْطِ؛ نحو: {أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى}[الإسراء:110].
          الثاني: للاستفهام؛ نحو: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا}[التوبة:124].
          الثالث: يكونُ موصولًا؛ نحو: [{لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ}[مريم:69]؛ التَّقديرُ]: لنَنْزِعَنَّ الذي هو أشدُّ، نصَّ عليه سِيبَويه.
          الرَّابِعُ: يكونُ صِفَةً لِلنَّكِرَة؛ نحو: [زَيدٌ رجلٌ أيُّ رَجلٍ؛ أي: كاملٌ في صِفاتِ الرِّجالِ، وحالًا للمعرِفَةِ؛ نحو]: مَرَرْتُ بعبدِ الله أيَّ رَجلٍ.
          الخامِسُ: يكون وُصْلَةً إلى نِداءِ ما فيهِ (أل) ؛ نحو: يا أيُّها الرَّجُلُ، ومنه قولُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}[المائدة:6]، وزَعَمَ الأخفَشُ أنَّ أيًّا هذهِ هي الموصولَةُ، حُذِفَ صَدرُ صِلَتِها، وهو العائِدُ، والمعنَى: يا مَنْ هو الرَّجُلُ، وكذلك يكونُ التقديرُ ههنا على قولِهِ: يا مَنْ هُم الذين آمنوا إذا قُمْتُم إلى الصَّلاةِ.
          و(ها) : تستَعملُ على ثلاثةِ أوجهٍ:
          الأوَّل: تكونُ اسمًا لفعلٍ؛ وهو (خُذْ)، تقول: (هَاءَ) للمُذَكَّر بالفَتْحِ، و(هاءِ) للمؤنَّثِ بالكَسْرِ، وهاؤُما وهاؤُنَّ وهاؤُم، قالَ الله تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة:19].
          والثاني: تكونُ ضَميرًا للمؤنَّثِ؛ نحو: ضَرَبَها وغُلامَها.
          والثالثُ: تكونُ للتَّنبيهِ، فتَدْخُلُ على أَرْبَعَةٍ؛ الأوَّل: الإشارَةُ؛ نحو: (هذا)، الثاني: ضَميرُ الرَّفع الْمُخبَرُ عنه باسمِ الإشارَةِ؛ نحو: {هَا أَنتُمْ أُولَاءِ}[آل عِمْرَان:119]، الثَّالث: اسمُ الله تعالى في القَسَمِ عندَ حَذفِ الْحَرفِ؛ نحو: (ها اللهُ) بِقَطْعِ الهمزَةِ ووَصْلِها، وكلاهُما مع إثباتِ أَلِفِ (ها) وحَذْفِها، الرَّابع: نَعتُ (أيُّ) في النِّداءِ؛ نحو: (يا أيُّها الرَّجُلُ)، وهي في هذا واجِبَةٌ للتَّنبيهِ على أنَّهُ المقصودُ بالنِّداءِ، ومنه قولُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}[المائدة:6].
          قولُهُ: ({الَّذِينَ}) اسمٌ موصولٌ مَوضوعٌ للجَمْعِ، وليسَ هو جَمعَ (الذي) ؛ لأنَّ (الذي) عامٌّ لذي العِلمِ وغيرِه، و(الذين) يختصُّ بذوي العلم، ولا يكون الْجَمْعُ أخصَّ مِن مُفرَدِهِ، وقولُ بعض شُرَّاح «الهداية» مِن أصحابِنا: (إنَّ «الذينَ» جمع «الذي») صادرٌ مِن غير تحقيقٍ.
          ثُمَّ إنَّ (الذين) لا يَخلو إمَّا أنْ يكونَ صِفَةً لـ(أيُّ)، أو يكونَ مَوصوفُها مَحذوفًا؛ تقديرُهُ: يا أيُّها النَّاس الذين آمنوا، أو يا أيُّها القومُ الذين آمنوا، ونحو ذلك....؛ لأنَّ الموصولاتِ وُضِعَتْ وُصْلةً إلى المعارِفِ بالْجُمَلِ، و(أي) ليسَ بِمَعرفَةٍ، فلا يكونُ (الذين) صِفَةً لهُ.
          فإنْ قُلتَ: كيفَ يكونُ (الذين) صِفةً لـ(أيُّ) وصِفَةُ (أيُّ) هو المقدَّر مِن (النَّاسِ) أو من (القَوم) ؟
          قلتُ: المجموعُ كُلُّهُ هو صِفَةُ (أيُّ)، لا المُقدَّر وحده، ولا الموصول / وحده، فعَن هذا سَقَطَ اعتراضُ الشيخ قوام الدين الإتقانيِّ على الشيخ حافظ الدين النَّسفيِّ في قولِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا}[المائدة:6] صِفَةٌ لـ(أيُّ) ؛ بأنَّهُ ليسَ كذلك؛ لأنَّ صِفَةَ (أيُّ) هو المقدَّرُ مِن (القَومِ) أو (النَّاس)، ثُمَّ {الذين آمنوا} صِفَة لتلك الصِّفَة المُقدَّرة لـ(أيُّ) بواسِطَةِ {الذين}.
          قوله: ({آمَنُوا}) فِعلٌ ماضٍ للجَمْعِ المذكَّر الغائبين، مِن آمَنَ يُؤْمِنُ إيمانًا.
          قولُهُ: ({إِذَا}) تُسْتَعملُ في الكلام على وجهين:
          الأوَّل: أنْ تكونَ للمفاجأَةِ، فتَخْتَصُّ بالْجُمَل الاسميَّة، ولا تَحتاجُ لجوابٍ، ولا تَقَعُ في الابتداءِ، ومعناها الحالُ، لا الاستقبال؛ نحو: خَرَجْتُ؛ فإذا الأسدُ بالبابِ، ومنه: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}[طه:20].
          والثاني: أنْ تكونَ ظرفًا للمُسْتَقْبَل مُضَمَّنَةً معنَى الشَّرط، وتَخْتَصُّ بالدخولِ على الجُمَل الفعليَّة، ومن هذا القبيل قولُه تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}[المائدة:6]، فإنَّ (إذا) ههنا ظَرفٌ تَضمَّن معنى الشَّرطِ.
          قولُه: ({قُمْتُمْ}) فِعلٌ ماضٍ للجَمْعِ المذكَّر المخاطبين.
          قولُهُ: ({إِلَى الصَّلَاةِ}) كَلِمَةُ (إلى) تأتي لثمانِيَةِ مَعانٍ:
          الأوَّل: انتهاءُ الغايَةِ الزَّمانيَّة؛ نحو: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}[البقرة:187] والمكانيَّةُ؛ نحو: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}[الإسراء:1].
          الثاني: المعيَّةُ؛ نحو: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ}[آل عِمْرَان:52].
          الثالث: التَّبيينُ، وهي الْمُبَيِّنَةُ لفاعليَّةِ مَجرورها بعد (ما)، يفيد حُبًّا أو بُغضًا مِن فِعلِ تَعجُّبٍ أو اسمِ تَفضيلٍ؛ نحو: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ}[يوسف:33].
          الرابع: بمعنى اللَّام؛ نحو: الأمرُ إليك.
          الخامس: بمعنى (في) ؛ نحو: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}[النساء:87].
          السادسُ: الابتداء؛ كقوله:
تقولُ وقَد عاليتُ بالكَوْر فوقَها                     أَيُسْقَى فلا يُروى إليَّ ابن أحمرا
          السابع: بمعنى (عندَ) ؛ نحو:
أشهى إِلَيَّ مِن الرحيقِ السَّلسلِ
          أي: عِنْدِي.
          الثامن: التَّوكيدُ، وهي الزَّائدة، أثبتَ ذلك الفَرَّاء مُستدِلًّا بِقِراءَةِ بَعْضِهم: {أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوَى إِلَيْهِمْ}[إبراهيم:37]؛ بِفَتْحِ الواو.
          قولُهُ: ({الصَّلَاةَ}) على وَزْنِ (فَعَلَة)، مِن صَلَّى؛ كـ(الزَّكاة) من (زَكَّى)، واشتقاقُها من (الصَّلا) ؛ وهو العَظْم الذي عليه الأَلْيانُ؛ لأنَّ المُصلِّيَ [يُحَرِّكُ صَلويهِ في الرُّكوعِ والسُّجودِ، وقيل: للثانِي مِن خَيلِ السِّباقِ المُصلى]؛ لأنَّ رَأْسَهُ يَلِي صَلَوي السَّابق، ويُقال: الصَّلاةُ: الدُّعاء، ومنه قول الأَعْشى في وصف الحمرِ:
وقابلَها الرِّيحُ في دَنِّها                     وصَلَّى على عادَتها وارتَسم
          أي: دَعَا لَها بالسَّلامَةِ والبَرَكَةِ.
          وأمَّا في الشَّرْعِ؛ فهِيَ عبارَةٌ عن الأفعالِ المعهودَةِ والأذكارِ المعلومَةِ.
          فإنْ قُلتَ: كَيْفَ يكونُ الْمَعْنَى في الوجهين؟
          قلتُ: على الوجْهِ الأوَّل يكونُ لَفْظُ الصَّلاةِ من الأسماءِ الْمُغيِّرَةِ شَرعًا، وعلى الوَجْهِ الثَّانِي يكونُ من الأسماءِ المنقولَةِ شَرْعًا؛ لوجودِ الْمَعْنَى اللَّغويِّ مع زيادَةٍ فيها شَرْعًا، وفي النَّقل المعنى اللُّغويُّ مَرعيٌّ، وفي التَّغييرِ يَكونُ باقيًا، ولكنَّهُ زِيدَ عليها شيءٌ آخر.
          قولُهُ: ({فاغْسِلُوا}) أَمرٌ للْجَمْعِ المذكَّرِ الحاضرين، من غَسَلَ يَغْسِلُ غَسْلًا وغُسْلًا؛ بالفَتْحِ والضَّمِّ، كلاهما مصدرانِ، وقيل: الغَسْلُ بالفَتْحِ: مَصْدَرٌ، وبالضَّمِّ: اسمٌ للاغتسالِ، وفي الشَّرْعِ: الغُسْلُ: إمرارُ الماءِ على الْمَوضِعِ إذا لَمْ يَكُنْ هناك نَجاسَةٌ، فإنْ كانَ هناك نَجاسَةٌ؛ فَغَسْلُها إزالَتُها بالماء، أو ما يَقومُ مَقامَهُ.
          قولُهُ: ({وُجُوْهَكُم}) جَمْعُ (وَجْهٍ)، وحكى الفَرَّاء: حَيِّ الوجوه، وحيِّ الأوْجُهَ، وقال ابنُ السِّكِّيتِ: ويفعلونَ ذلكَ كثيرًا في الواوِ إذا انضَمَّتْ، وهو في اللُّغَةِ مأخوذٌ مِن «المواجَهَةِ»؛ وهي المقابَلَةُ، وحدُّه في الطُّولِ من مُبتَدأ سَطح الْجَبْهَةِ إلى مُنْتهى اللَّحيينِ؛ وهما عظما الْحَنَكِ، ويُسمَّيانِ الفَكَّينِ، وعليهما منابِتُ الأسنانِ السُّفلى، ومن الأُذُنِ إلى الأُذُنِ في العَرْضِ، وقال أبو بكر الرازيُّ: والأقطعُ حَدُّه مِن قُصاصِ الشَّعر إلى أسفلِ الذَّقْنِ إلى شحْمَةِ الأُذُنِ، حكى ذلك أبو الْحَسَن الكَرْخِيُّ عن أبي سَعيد البَرْدَعيِّ، وقال الرَّازيُّ: ولا نَعْلَمُ خِلافًا بين الفقهاء في هذا المعنى، وكذلك يَقْتَضي ظاهر الاسم؛ إذ كانَ إنَّما سُمِّي وجهًا لظهورِهِ، ولأنَّهُ يواجِهُ الشيء ويقابل به، وهذا الذي ذكرناهُ من تحديدِ الوجه هو الذي يواجِه الإنسان ويقابِله مِن غيرِهِ. /
          فإنْ قُلتَ: فَينبغي أنْ تَكونَ الأذنانِ مِن الوَجْهِ لهذا المعنى.
          قلتُ: لا يَجِبُ ذلكَ؛ لأنَّ الأذنينِ تُسْتَرانِ بالعِمامَةِ والإزار والقَلَنْسُوَة ونحوِها.
          وقال في «البدائع»: لَمْ يُذْكَر حَدُّ الوجهِ في ظاهر الرِّوايَةِ، وذُكِرَ في غيرِ الأصولِ، كما ذكره في «الكِتابِ»، وقال: وهذا حدٌّ صَحيحٌ، فيَخْرُجُ داخلُ العينين والأنف والفم وأصول شَعر الحاجبينِ واللِّحْيَة والشارب وَوَنيمُ الذُّباب ودمُ البراغيث؛ لِخُروجها عن المواجَهَةِ.
          وقال أبو عبد الله البَلخِيُّ: لا تَسْقُطُ، وبِهِ قال الشَّافِعِيُّ في الخفِيفِ، والْمُزنِيُّ وأبو ثورٍ وإِسْحاق مُطلقًا، وحكى الرَّافعيُّ قولًا، وفي «المبسوطِ»: العَينُ غيرُ داخلٍ في غُسْل الوَجْهِ؛ لِما في إيصالِ الماء إليها حَرَجٌ؛ لأنَّهُ شَحمٌ لا يقبل الماءَ، ومَن تَكلَّفَ مِن الصحابة فيهِ؛ كُفَّ بَصرُه في آخر عُمرِهِ؛ كابن عَبَّاس وابن عُمَرَ ♥ ، وفي «الغايَةِ» للسُّروجيِّ عن أحمدَ بن إبراهيم: أنَّ مَن غمَّضَ عَينيهِ في غُسْلِ الوَجْهِ تَغميضًا شديدًا؛ لا يُجزئه الوضوء، وقيل: مَن رَمَدَتْ عينه فَرمصَتْ، واجتمعَ رمصُها؛ تكلَّف إيصال الماء تحت مُجتمَع الرَّمص، ويجب إيصالُ الماءِ إلى المَآقِ، كذا في «الْمُجْتَبى».
          وفي «الْمُغني»: الوَجْهُ مِن مَنابِتِ شَعر الرأسِ إلى ما انْحَدَرَ مِنَ اللَّحْيينِ والذَّقَنِ إلى أصولِ الأُذنَين، ولا يُعْتَبَرُ كلُّ أحدٍ بِنَفْسِهِ، بل لو كانَ أَجْلَحَ يَنْحَسِرُ شَعره عن مُقدَّم رَأْسِهِ؛ غَسَلَ إلى حَدِّ مَنابِتِ الشَّعَرِ في الغالبِ، والأقْرَع الذي يَنْزلُ شَعرُهُ إلى الوجهِ يَجِبُ عليه غسل الشَّعر الذي يَنْزِلُ عن حَدِّ الغالبِ، وفي «الأحكام» لابن بَزِيْزَة: للوَجْهِ حَدٌّ طولًا وعرضًا؛ فحدُّهُ طولًا مِن مَنابِتِ الشَّعَرِ المعتاد إلى الذَّقْنِ، وقولنا: «المعتادُ» احترازٌ عن الأغمِّ والأقرعِ، واختلف المذهب في حَدِّهِ عَرْضًا على أربعة أقوال؛ فقيل: مِن الأذن إلى الأذنِ، وقيل: مِن العذار إلى العذار في حَقِّ الملتحِي، ومن الأُذُن إلى الأُذُنِ في حقِّ الأمردِ، والقولُ الرَّابع: إنَّ غسل البياضِ الذي بين الصَّدغِ والأذن سُنَّةٌ.
          قولُهُ: ({وَأَيْدِيَكُمْ}) جَمْعُ (يَدٍ)، وأصلُها: (يَدْيٌ)، على وَزْنِ (فَعْل) بِسكونِ العَيْنِ؛ لأنَّ جمعها: أَيْدٍ، ويُديٌّ؛ مثل: فَلْس وأَفْلُس وفُلُوس، ولا يُجْمَع على (أَفْعُل) (فَعْلٌ) إلَّا أَحْرُفٌ يسيرة معدودة؛ مثل: زَمَنٌ وأَزْمُنٌ، وجبل وأَجْبُل، وعَصًا وأَعْصٍ، وقد جُمِعَتْ (الأيدي) في الشِّعر على (أيادٍ)، قال الشاعر:
كأنَّهُ بالصَّحْصحانِ الأنجلِ                     قُطنُ سُخَامٍ بأيادي غُزَّلِ
          وهو جَمْعُ الْجَمْعِ؛ مثل أَكْرُع وأكارِعٍ، واليَدُ: اسم يَقَعُ على هذا العُضو؛ مِن طَرَفِ الأصابِعِ إلى المَنْكِبِ، والدليلُ على ذَلِكَ أنَّ عَمَّارًا ☺ تَيَمَّمَ إلى الْمَنْكبِ، وقال: «تَيَمَّمْنا إلى المناكب مع رسول الله صلعم »، وكانَ ذلك بعمومِ قولِهِ تعالى: {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}، ولم يُنْكَرْ عليه مِن جِهَةِ اللُّغَةِ؛ بلْ هُو كانَ من أهلِ اللُّغَةِ، فكانَ عِنْدَهُ أنَّ الاسمَ للعُضو إلى المَنْكبِ، فَثَبَتَ بذلك أنَّ الاسمَ يَتناول إلى الْمَنْكِبِ، فإذا كانَ الإطلاقُ يَقْتَضِي ذلك، ثُمَّ ذَكَرَ التحديدَ فَجَعَلَ المرافِق غايةً؛ كان ذكرها لإسقاطِ ما ورَاءَها.
          قولُهُ: ({إِلَى الْمَرَافِقِ}) جَمْعُ (مِرْفَقٍ) ؛ بِكَسْرِ الميمِ وفتح الفَاءِ، وعلى العَكْسِ، وهو مُجْتَمَعُ طَرفِ السَّاعِدِ والعَضُدِ.
          قلتُ: الأوَّل: هو اسمُ الآلَةِ؛ كالْمِحْلَبِ، والثاني: اسمُ المكانِ، ويجوزُ فيه فَتح الميمِ والفاء، على أنْ يكونَ مَصدرًا أو اسمَ مكانٍ على الأصلِ، وذكرَ ابن سِيدَه في «الْمُخصَّص»: أنَّ أبا عُبَيدَةَ قال: الْمِرْفَقُ والْمَرْفَقُ من الإنسانِ والدابَّةِ: أعلى الذِّرِاعِ وأسفل العَضُدِ، والْمِرْفَقُ: الْمُتَّكأ، الأصمعيُّ: المَرْفِقُ مِن الإنسانِ والدابَّةِ بِكَسْرِ الفاءِ، والْمَرْفَقُ: الأمرُ الرَّفيق، بِفَتْحِها، وفي «الجامع» للقَزَّاز: قال قومٌ: الْمِرْفَقُ مِن اليَدِ والْمُتَّكأ والأمر بِكَسْرِ الميم؛ ولذلك قَرَأَ الأعمشُ والْحَسَنُ وأبو عَمرو [وعاصمٌ] وحمزَةُ والكِسائِيُّ: {ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِرْفَقًا}[الكهف:16] بِكسْرِ الميمِ، وقرأها أهلُ المدينة وابن عامر بالفَتْحِ، وبهذا يُرَدُّ على الجَوْهَريِّ حيثُ زَعَمَ أنَّ الفَتْحَ لم يَقْرأ به أَحَدٌ، وفي «الغريبَين»: الفَتْح أَقْيَسُ، والكَسْرُ أَكْثَرُ في «مِرْفَقِ اليَدِ».
          قولُهُ: ({وَامْسَحُوا}) أَمْرٌ مِنْ مَسَحَ يَمْسَحُ مَسْحًا، من بابِ: (فَعَلَ يَفْعَلُ) ؛ بالفَتْحِ [فيهما، قالَ الجَوْهَريُّ: مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وتَمَسَّحَ بالأرض، ومَسَحَ الأَرْضَ مساحةً؛ أي: ذَرَعَها، ومَسَحَ المرأةَ؛ أي: جامَعَها، ومَسَحَهُ بالسَّيْفِ؛ أي: قَطَعَهُ، ومَسَحَت الإبِلُ يَوْمَها؛ أي: سَارَت]، ومَسِحَ الرجلُ / _بالكَسْرِ_ مَسْحًا، مِن الأمسحِ؛ وهو الذي تُصِيبُ إحدى رَبْلتَيهِ [الأخرى].
          قلتُ: (الرَّبَْلَةُ) بفتح الراء، وسكون الباء المُوَحَّدة وفتحها، هو باطِنُ الفَخِذِ، وقال الأصمعيُّ: الفَتْحُ أَفْصَحُ، والْجَمْعُ «رَبَلاتٌ».
          وفي الشَّرْعِ: الْمَسْح: الإصابَة، وقد يَجِيءُ بمعْنَى الغُسل، على ما يَجيء إنْ شاء الله تعالى، و(الرُّؤُوسُ) جَمْعُ (رَأسٍ)، وهو جَمْعُ كَثْرَةٍ، وجَمْعُ القِلَّةِ (أَرْؤُسٌ).
          قولُهُ: ({وَأَرْجُلَكُمْ}) جَمْعُ (رِجْلٍ)، و(الكَعْبُ) فيهِ أقوالٌ:
          الأوَّل: هو النَّاشِزُ عند مُلتَقَى السَّاقِ والقَدَمِ، وأنْكَرَ الأصمَعِيُّ قولَ النَّاسِ: إنَّهُ في ظَهْرِ القَدَمِ، نَقَلَهُ عنه الجَوْهَريُّ، وقالَ الزَّجَّاجُ: الْكَعبانِ: [الْعظْمانِ النَّاتئانِ في آخرِ السَّاقِ معَ القَدمِ، وكلُّ مِفصَلٍ لِلْعظَامِ؛ فهوَ كَعبٌ، إِلَّا أنَّ هذينِ الْكعبينِ ظَاهرانِ عنْ يُمنةِ القَدمِ ويُسرتِهِ؛ فَلذلكَ لمْ يحتجْ أنْ يُقالَ: الكَعبَانِ] اللَّذَانِ مِنْ صِفَتِهمَا كَذَا وكَذَا، وفي «المْخَصَّصِ»: في كُلِّ رِجْلٍ كَعْبانِ، وهُمَا طَرفَا عَظْمَيِ السَّاقِ ومُلْتقى القَدمينِ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: وقَولُ أبيْ كَبيرٍ:
وَإذَا يهِبُّ مِنَ المْنَامِ رَأيتُهُ                     كرُتوبِ كَعبِ السَّاقِ ليْسَ بِزُمَّلِ
          يدلُّ على أنَّ الْكعبينِ همَا النَّاجمانِ في أسفلِ كُلِّ سَاقٍ ومنْ جَنبها، ولَيسَ الشَّاخص في ظَهرِ القدَمِ، وفي «التَّهذيبِ»للأزهريِّ عنْ ثَعلبٍ: الْكعبان المنْجمَانِ النَّاتِئانِ، قال: وهوَ قولُ أبيْ عمرِو بْنِ العَلاءِ وَالأَصمعيِّ، وفي كتاب «الْمُنتهى» و«جَامِع القَزَّازِ»: «الْكعبُ»: النَّاشِزُ عنْد مُلتقى السَّاقِ والقَدمِ، ولِكلِّ رِجْلٍ كَعبان، والجْمعُ: كَعُوبٌ وكِعَابٌ.
          وقَالتِ الِإماميَّةُ: وكلُّ مَنْ ذَهبَ إلى المسْحِ أنَّه عَظْمٌ مُستديرٌ؛ مثلُ كعْبِ الْغنمِ والبقرِ، مَوضوعٌ تحتَ عَظمِ السَّاقِ، حيثُ يكونُ مفصلُ السَّاقِ والقَدمِ، عندَ مَعقدِ الشِّراكِ، وقَالَ فخرُ الدِّينِ ابنُ الخطيبِ: اختَارَ الأَصمعِيُّ قولَ الإمَاميَّةِ في الكَعبِ، وقَال: الطَّرفانِ النَّاتئَانِ يُسمَّيانِ النَّجْمَينِ، وهوَ خِلافُ ما نقَلهُ عنْه الجَوْهَريُّ، وحجَّةُ الجُمهورِ: لو كانَ الكعبُ ما ذكروهُ؛ لَكانَ في كُلِّ رِجْلٍ كَعبٌ واحدٌ، فكانَ ينبغِي أنْ يقولَ: إلى الكِعَابِ؛ لأنَّ الأصْلَ أنَّ ما يوجدُ منْ خَلقِ الإنسانِ مُفرَدًا؛ فَتثْنِيَتُهُ بِلفظِ [الجمعِ؛ كقولِهِ تَعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}[التحريم:4]، وتَقَولُ: رَأيتُ الزَّيدينِ أنْفُسَهُمَا، ومتَى كانَ مثُنًّى؛ فَتثْنِيَتُهُ بلفظِ] التَّثنيةِ، فلمَّا لمْ يَقُلْ: إلى الكِعابِ؛ عُلمَ أنَّ المرَادَ منْ «الْكعبِ» ما أردنَاهُ.
          الثَّاني: أنَّهُ شَيءٌ خَفيٌّ لا يَعرِفُهُ إلَّا المشَرِّحُونَ، ومَا ذكرناهُ معلومٌ لِكلِّ أَحدٍ، ومَناطُ التَّكليفِ على الظُّهورِ دونَ الخفاءِ.
          الثَّالثُ: حدِيثُ عثْمانَ ☺ : «غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ الْيُسْرَى»، كَذَا خرَّجَهُ مُسلِمٌ، فدَلَّ على أنَّ المراد: في كُلِّ رِجْلٍ كَعْبينِ، وحَديثُ النُّعمَانِ بْنِ بشِيرٍ ☺ في تسْويَةِ الصُّفوفِ: فَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجُلَ يُلْصِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ، وَمَنْكِبِهِ بِمَنْكِبِهِ، رَواهُ أبو داودَ والبيْهقِيُّ بِأَسانيدَ جَيِّدةٍ، والبُخَاريُّ في «صَحيحهِ» تعليقًا، ولا يتَحقَّقُ إِلصَاقُ الْكَعْبِ بِالْكعْبِ فِيمَا ذَكروهُ، وحديثُ طارِق بنَ عبدِ اللهِ أخْرَجه إِسْحاق ابنُ رَاهَوِيه في «مُسنَدِهِ» وقَالَ: حدَّثنا الفضلُ بْنُ مُوسَى عنْ يزيدَ بْنَ زيادِ بْنِ أبي الْجَعدِ، عنْ جامعِ بنِ شَدَّادٍ، عنْ طارِق بنِ عبدِ اللهِ المُحَارِبيِّ ☺ قَالَ: رَأيتُ رَسولَ الله صلعم في سُوقِ ذِي المْجَازِ وعَليهِ جُبَّةٌ حَمْرَاءَ وهوَ يقولُ: «يا أَيُّها النَّاسُ؛ قُولوا: لا إِلهَ إِلا الله؛ تُفلِحُوا»، ورَجُلٌ يَتْبَعهُ وَيرْمِيهُ بِالْحِجَارَةِ، وقَدْ أدْمى عُرْقُوبَهُ وكَعْبَيْهِ [وهوَ يقولُ: يا أيَّها النَّاسُ؛ لا تُطيعوْهُ؛ فإنَّه كذَّابٌ، فقُلتُ]: مَنْ هذَا؟ فَقالُوا: هذا ابْنُ عبدِ المطَّلبِ، قُلتُ: فَمَنْ هذا الَّذي يتْبَعُهُ ويَرميهُ بِالْحِجارَةِ؟ قَالوْا: هَذَا عَبدُ الْعُزَّى أبو لَهَبٍ، وهذَا يدُلُّ على أنَّ «الْكعْبَ» هوَ العظْمُ النَّاتِئ في جَانِبِ القَدَمِ؛ لأَنَّ الرَّميَةَ إِذَا كانتْ مِنْ وَرَاءِ المْاشِي؛ لا تُصيبُ ظَهرَ القَدمِ.
          فَإنْ قُلتَ: رَوى هِشامُ بنُ عبدِ الله الرَّازي عن مُحَمَّد بْنِ الْحَسنِ ☼ : أنَّه في ظَهرِ الْقدَمِ عندَ مَعْقدِ الشِّرَاكِ.
          قُلتُ: قَالوا: إنَّ ذَلكَ سَهوٌ عنْ هشَامٍ في نقْلِهِ عنْ مُحَمَّد؛ لأنَّ مُحَمَّدًا قالَ ذلكَ في مسألةِ الْمُحرِمِ إذَا لَمْ يجدِ النَّعلينِ؛ حيثُ يقطعُ خُفَّيهِ أسفلَ الْكعبينِ، وأشارَ مُحَمَّد بيدهِ إلى موضعِ القَطعِ، فَنقَلَهُ هِشَامٌ إلى الطَّهارَةِ.
          وقَالَ ابن بَطَّالٍ في «شَرحِهِ»: قَالَ أبوْ حَنِيفَةَ: الْكعبُ هوَ العظْمُ الشَّاخِصُ في ظَهرِ القَدمِ، ثمَّ قَالَ: وَأهلُ اللُّغةِ لا يعْرفونَ مَا قَال.
          قُلتُ: هذَا جَهْلٌ منه بمَذهبِ أبي حَنيْفَةَ ☺ ، فإِنَّ ذَلكَ ليسَ قَوْلًا له، ولا نَقلَه عنه / أحدٌ منْ أصْحابِهِ، فَكيفَ يقوْلُ: قالَ أبوْ حنِيفَةَ كَذَا وكَذَا؟! وهَذَا جَرَاءَةٌ عَلى الأَئِمَّة.