عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب استعمال فضل وضوء الناس
  
              

          ░40▒ (ص) بَابُ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ استعمالِ فَضْلِ وَضُوءِ الناس في التَّطهير وغيره.
          و(الوَضوء) بفتح الواو، والمراد: مِن فَضْلِ الوَضوءِ، يحتمل أن يكون ما يبقى في الظَّرف بعد الفراغ مِنَ الوضوء، ويحتمل أن يُرادَ به الماءُ الذي يتقاطرُ عَن أعضاءِ المتوضِّئ، وهو الماءُ الذي يقول له الفقهاءُ: الماء المستعمَلُ، واختلف الفقهاء فيه؛ فعَن أبي حنيفة ثلاثُ رواياتٍ؛ فرويَ عَن أبي يوسفَ أنَّهُ نجسٌ مخفَّفٌ، وروى الحسنُ بنُ زياد أنَّهُ نجَسٌ مُغلَّظٌ، وروى مُحَمَّد بنُ الحسنِ وزُفَرُ وعافِيةُ القاضي أنَّهُ طاهرٌ غيرُ طهورٍ، وهو اختيار المُحقِّقين مِن مشايخ ما وراء النَّهر، وفي «المحيط»: وهو الأشهر الأقيسُ، وقال في «المفيد»: وهو الصحيح، وقال الأسبيجابيُّ: وعليه الفتوى، وقال قاضيخان: وروايةُ التَّغليظ روايةٌ شاذَّةٌ غيرُ مأخوذٍ بها، وبه يردُّ على ابن حزمٍ قولَه: الصَّحيحُ عَن أبي حنيفة نجاستُهُ، وقال عبد الحميد القاضي: أرجو ألَّا تثبت روايةُ النجاسة فيه عَن أبي حنيفةَ، وعند مالك: طاهرٌ وطهورٌ، وهو قول النَّخَعِيِّ والحسن البِصْريِّ والزُّهْريِّ والثَّوْريِّ وأبي ثورٍ، وعند الشَّافِعِيِّ: طاهرٌ غيُر طهورٍ، وهو قوله الجديدُ، وعندَ زُفَرَ: إن كان مستعمِلُه طاهرًا؛ فهو طاهرٌ وطهورٌ، وإن كانَ مُحْدِثًا؛ فهو طاهرٌ غيرُ طهورٍ.
          وقوله: (اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ) أعمُّ مِن أن يُستَعمَلَ للشرب أو لإزالة الحَدَثِ أو الخَبَثِ أو الاختلاط بالماء المُطلَقِ، فعلى قولِ النَّجاسةِ لا يجوزُ استعمالُهُ أصلًا، وعلى قول الطهوريَّة يجوزُ استعمالُهُ في كلِّ شيءٍ، وعلى قول الطاهريَّة: فقط يجوزُ استعمالُهُ للشرب والعجين والطبخ وإزالة الخَبَثِ، والفتوى عندنا على أنَّهُ طاهرٌ غيرُ طهورٍ، كما ذهب إليه مُحَمَّدُ بن الحسن.
          والمناسبة بين البابين من حيثُ إنَّ البابَ السابقَ في صفةِ الوضوءِ، وهذا البابُ في بيانِ الماءِ الذي يفضُلُ مِنَ الوضوءِ.
          (ص) وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّؤُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ.
          (ش) هذا الأثرُ غيرُ مطابقٍ للترجمة أصلًا؛ فإنَّ الترجمة في استعمالِ فضلِ الماءِ الذي يفضُلُ مِنَ المتوضِّئ، والأثرُ هو الوضوءُ بفضلِ السواكِ، ثُمَّ فضلُ السواكِ إن كان ما ذكره ابن التين وغيرُه أنَّهُ هو الماءُ الذي يُنتَقعُ به السواكُ، فلا مناسبةَ له للترجمة أصلًا؛ لأنَّه ليسَ بفضْلِ الوضوء، وإن كان المرادَ أنَّهُ الماءُ الذي يغمِسُ فيه المتوضِئ سواكَه بعدَ الاستياكِ، فكذلك لا يناسبُ الترجمةَ.
          وقال بعضهم: أراد البُخَاريُّ أنَّ هذا الصنيعَ لا يغيِّرُ الماءَ؛ فلا يُمنَع التَّطهير به.
          قُلْت: مَن له أدنى ذوقٍ مِنَ الكلام لا يقولُ هذا الوجهَ في تطابق الأثرِ للترجمة.
          وقال ابنُ المُنَيِّر: إن قيل: ترجمَ على استعمالِ فضلِ الوضوء، ثُمَّ ذكر حديث السواكِ والمجَّةَ، فما وجهه؟ قُلْت: مقصودُه الرَّدُّ على مَن زعم أنَّ الماءَ المستعمَلَ في الوضوء لا يُتطهَّرُ به.
          قُلْت: هذا الكلامُ أبعدُ مِن كلام ذاك القائلِ، فأيُّ دليلٍ دلَّ على أنَّ الماءَ في خبرِ السِّواكِ والمجَّةِ فضلُ الوضوء؟ وليس فضلُ الوضوءِ إلَّا الماءَ الذي يفضُلُ مِن وضوء / المتوضِّئ، فإن كان لفظُ (فضل الوضوء) عربيًّا؛ فهذا معناه، وإن كان غيرَ عربيٍّ؛ فلا تعلُّقَ له ههنا.
          وقال الكَرْمَانِيُّ: وفضلُ السِّواكِ هو الماء الذي يُنتقَعُ فيهِ السواكُ ليترطَّب، وسواكهم الأراكُ، وهو لا يغيِّر الماءَ.
          قُلْت: بيَّنتُ لكَ أنَّ هذا كلامٌ واهٍ، وأنَّ فضلَ السواكِ لا يُقالُ له: فضلُ الوضوءِ، وهذا لا ينكرِه إلَّا معانِدٌ، ويمكنُ أن يقالَ بالجرِّ الثَّقيل: إنَّ المرادَ مِن فضلِ السواكِ هو الماءُ الذي في الظَّرف، والمتوضئ يتَوَضَّأ منه، وبعد فراغِه مِن تسوُّكِهِ عقيبَ فراغِهِ مِنَ المضمضةِ يرمي السواكَ المُلوَّثَ بالماء المستعمَلِ فيه.
          ثُمَّ أثر جريرٍ المذكورُ وصله ابن أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه»، والدَّارَقُطْنيُّ في «سننه»، وغيرهما من طريق قيس بن أَبِي حَازِمٍ عنه، وفي بعض طرقه: (كان جريرٌ يستاكُ ويغمِسُ رأسَ سواكِهِ في الماء، ثُمَّ يقول لأهله: تَوَضَّؤوا بفضلِهِ)، لا يرَى به بأسًا.