عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب مسح الرأس كله
  
              

          ░38▒ (ص) بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكمِ مسحِ كلِّ الرَّأسِ في الوضوءِ، ولفظ (كلِّه) موجودٌ عندهم إلَّا في رواية المُسْتَمْلِي، فَإِنَّهُ ساقطٌ.
          والمناسبة بين البابين أنَّ البابَ الأَوَّل مترجَمٌ بترك الوضوء مِنَ الغشيِ إلَّا إذا كان مثقِلًا، وهذا البابُ مشتَمِلٌ على مسحِ جميعِ الرأسِ؛ وهو جزءٌ مِنَ الوضوء.
          (ص) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}[المائدة:6].
          (ش) احتجَّ البُخَاريُّ في وجوبِ مسحِ جميعِ الرَّأسِ بـ(قَولِهِ تَعَالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}) واحتجاجُهُ به إِنَّما يتمُّ إذا كانت الباءُ زائدةً، كما ذهب إليه مالكٌ ☼ .
          (ص) وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَِّبِ: الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ؛ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا.
          (ش) أي: قال سعيدٌ (ابنُ المُسَيَِّبِ) [ ☺ .
          ووصله ابنُ أبي شَيْبَةَ في «مُصنَّفه»: (حَدَّثَنَا وكيعٌ عَن سفيانَ عَن عبد الكريم _يعني ابنَ مالك_ عن سعيدِ بنِ المُسَيَِّبِ]
: المرأةُ والرجلُ في مسح الرأس سواءٌ).
          قوله: (بِمَنْزِلَةِ الْرَّجُلِ) أي: في وجوب مسحِ جميعِ الرَّأس، هكذا فسَّره الكَرْمَانِيُّ، ومع هذا يحتمل أن يكونَ مرادَه أنَّها بمنزلةِ الرجلِ في وجوب أصل المسحِ، فحينئذ هذا الأثرُ لا يساعدُ البُخَاريَّ في تبويبِه لمسح كلِّ الرَّأس، ونُقِلَ عَن أحمدَ أنَّهُ قال: (يكفي المرأةَ مسحُ مُقدَّمِ رأسِها).
          (ص) وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ، فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ ☺ .
          (ش) (أَيُجْزِئُ) يجوزُ فيه الوجهان؛ أحدهما: بفتح الياءِ مِن جَزَى يجزي؛ أي: كفَى، والهمزة فيه للاستفهام، والثاني: بِضَمِّ الياءِ، مِن الإجزاءِ؛ وهو الأداء الكافي لسقوط التعبُّد به، وفي بعض النُّسَخ: <ببعض رأسه>، وفي بعضها: <ببعض الرأس>، والسائل مِن مالكٍ في مسحِ الرَّأسِ هو إسحاقُ بنُ عيسى بنِ الطَّبَّاعِ، بيَّنه ابنُ خزيمة في «صحيحه» مِن طريقه، ولفظه: (سألتُ مالكًا عَنِ الرَّجلِ يمسَحُ مقدَّمَ رأسِهِ في وضوئه: أيجزئه ذلك؟ فقال: حدَّثني عَمْرو بن يحيى عَن أبيه، عن عبد الله بن زيدٍ قال: «مسح رسولُ الله صلعم / في وضوئه مِن ناصيته إلى قفاه، ثُمَّ ردَّ يديه إلى ناصيتِهِ، فمسَحَ رأسَه كلَّه»، وقال بعضُهم: موضعُ الدَّلالة مِنَ الحديث والآية: أنَّ لفظَ الآية مُجمَلٌ؛ لأنَّه يحتمل أن يُرادَ بها مسحُ الكُلِّ، على أنَّ الباءَ زائدةٌ، أو مسح البعضَ على أنَّها تبعيضيَّةٌ، فتبيَّن بفعلِ النَّبِيِّ صلعم أنَّ المرادَ الأَوَّلُ.
          قُلْت: لا إجمالَ في الآية، وإِنَّما الإجمالُ في المقدار دونَ المحلِّ؛ لأنَّهُ الرأسُ، وهو معلومٌ، وفعلُهُ صلعم كان بيانًا للإجمال الذي في المقدار، وهذا القائلُ لو عَلِمَ معنى الإجمال؛ لَما قالَ: (لفظ الآية مُجمَل).
          قوله: (فَاحْتَجَّ) أي: مالكٌ احتجَّ بحديثِ عبدِ الله بن زيدٍ الذي ساقه هنا على عدمِ الإجزاء في مسح بعضِ الرأس، والمعنى: أنَّهُ لمَّا سُئِلَ عَن مسحِ الرأس؛ روى هذا الحديثَ، واحتجَّ به على أنَّهُ لا يجوزُ أن يقتَصِر ببعضِ الرَّأسِ.