عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة
  
              

          ░7▒ (ص) بابُ غَسْلِ الوَجْهِ بِاليَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ واحِدَةٍ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بَيان غَسلِ الوَجهِ إلى آخرِهِ.
          و(الغَرفَة) بالفتح بِمعنى المصدَرِ، وبالضَّمِّ بمعنى المَغروف؛ وهي مِلءُ الكفِّ، وقرأ أبو عَمرٍو: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غَرْفَةً}[البقرة:249] بفتحها، وفي «العُباب»: غَرفتُ الماءَ بيدي غَرْفًا، و(الغَرْفَة) المَرَّة الواحدة، و(الغُرفة) بالضَّمِّ: اسم المَفعولِ منهُ؛ لأنَّك ما لم تَغرفْهُ لا تُسمِّيه غَرْفةً، وقرأ ابن كثيرٍ وأبو جَعفر ونافعٌ وأبو عَمْرٍو: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غَرْفَةً}[البقرة:249] بالفتح، والباقُون: بالضَّم، وجَمعُ المضمُومَةِ (غِرافٌ) ؛ كَنُطفةٍ ونِطاف، و(الغُرفة) بالضَّمِّ أيضًا العُلِّيَّة، والجمع: (غُرُفاتٌ) و(غُرَفٌ)، و(الغُرفَةُ) أيضًا: الخَصلةُ من الشَّعَرِ، والحَبلُ المعقُود بأُنْشوطة أيضًا، انتهى، ويحكى أنَّ أبا عَمْرو تطلَّبَ شاهِدًا على قِراءتِهِ مِن أَشعارِ العَرب، فلمَّا طلَبهُ الحَجَّاج؛ هَرَبَ منهُ إلى اليَمَنِ، فَخرجَ ذاتَ يومٍ؛ فإذا هو بِراكبٍ يُنشِد قَولَ أميَّةَ بن أبي الصَّلتِ:
ربَّما تَكره النُّفوسُ مِن الأَمـ                     ـرِ لهُ فَرجَةٌ كحلِّ العِقالِ
          قال: فقلت له: ما الخبَرُ؟ فقال: ماتَ الحَجَّاج، قال أبو عَمْرٍو: فلا أدري بأيِّ الأمرين كان فَرَحِي أكثرَ؛ بِموتِ الحَجَّاج أو بقولِهِ: «فَرْجةٌ»؟ لأنَّه شاهِدٌ لقِراءَتِهِ؛ أي: كما أنَّ مفتوحَ (الفَرجَةِ) هنا بِمعنَى: المُنفَرج؛ كذا مفتوح (الغَرفَةِ) بِمعنَى: المغرُوفِ، فَقراءةُ الضَّمِّ والفَتح يَتطابَقان.
          فإن قُلتَ: ما المُرادُ من هذه التَّرجمَةِ؟ قلت: التَّنبيهُ على عَدَمِ اشتِراط الاغتِراف باليدين جَميعًا؛ فإنَّ ابن عَبَّاس ☻ لَمَّا توضَأَ كَوضُوءِ النَّبِيِّ صلعم ؛ أَخذ غُرفَةً مِن الماء بِيدِهِ الواحِدة، ثُمَّ ضَمَّ إليها يدَه الأخرى، ثمَّ غَسَلَ بتلكَ الغُرفَةِ وجهَهُ، على ما يأتي الآن إن شاءَ اللهُ تَعالَى،
          فإنْ قلتَ: ما وجهُ المُناسَبة بين البابَيْن؟ قلت: المناسَبَةُ بين البابَين المَذكورَين وبين أكثرِ أَبوابِ (كِتاب الوُضوء) غيرُ ظاهرةٍ؛ ولذلك قال الكَرْمانِيُّ: فإن قلتَ: ما وجهُ التَّرتِيب الذي لهذه الأَبواب؟ وأَشارَ به إلى الأَبواب المذكُورَةِ هَهنا، ثمَّ قال: في «بابِ التَّسمِيَةِ»؛ إذ التَّسميةُ إنَّما هي قَبلَ غَسلِ الوَجهِ، لا بعده، ثمَّ إنَّ تَوسُّطَ أمرِ الخلاءِ بين «أبواب الوُضُوءِ» لا يُناسِبُ ما عَليهِ الوُجودُ، ثمَّ أَجابَ عن ذلكَ بقولِهِ: قلتُ: البُخاريُّ لا يُراعِي حُسنَ التَّرتيب، وجُملَةُ قَصدِهِ إنَّما هو في نقل الحديث وما يتعلَّقُ بِتصحِيحِهِ لا غير، ونِعْمَ المَقصِدُ! انتهى.
          قلتُ: لا نُسلِّم أنَّ جُملةَ قَصدِهِ نقلُ الحديث وما يتعلَّق بتصحِيحِهِ فقط؛ بل مُعظَمُ قصدِهِ ذلكَ معَ سَردِهِ في أَبوابٍ مَخصُوصَةٍ؛ ولِهَذا بَوَّبَ الأَبواب على تَراجِمَ مُعيَّنةٍ، حتَّى وَقَعَ منهُ تَكرار كَثيرٌ لأجَلِ ذلكَ، فإذا كان الأمرُ كذلك؛ يَنبَغِي أن يتطلَّب وجوهَ [المناسبات بين الأَبوابِ.
          وإن كانت غيرَ ظاهِرَةٍ بحسبِ الظَّاهِرِ؛ فنقول: وجهُ]
المُناسَبَةِ بين البابَين المذكُورَين مِن حيثُ إنَّ مِن جُملَةِ المذكُورِ في الباب الأوَّل بعضَ وَصفِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلعم ، [وفي هذا الباب المذكور أيضًا وصفُ وُضوءِ النَّبِيِّ صلعم ]، فإنَّ ابن عَبَّاس ☻ لمَّا تَوضَّأَ على الوجه المذكُورِ في الباب؛ قال: هَكَذا رأيتُ النَّبِيَّ صلعم يَتوضَّأ، فهذا المِقْدار من الوجه كافٍ، / على أنَّ المناسَبَةَ العامَّة موجودةٌ بين الأَبواب كلِّها؛ لِكونِها مِن وادٍ واحِدٍ، ثمَّ تَوجيهُ المُناسَباتِ الخاصَّة إنَّما يَكونُ بِقدْرِ الإدراك.