عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من حمل معه الماء لطهوره
  
              

          ░16▒ (ص) باب مَنْ حُمِلَ مَعَهُ الماءُ لِطُهُورِهِ
          (ش) أي: هذا بابٌ في بَيانِ مَن حَمَلَ معهُ / الماءَ لِأَنْ يَتطهَّرَ به.
          و(الطُّهُورُ) هَهنا بِضَمِّ الطَّاء؛ لأنَّ المُرادَ به هو الفِعلُ الَّذي هو المصدَرُ، وأمَّا (الطَّهُورُ) بِفتحِ الطَّاء؛ فَهوَ اسمٌ للماءِ الَّذي يُتطهَّر به، وقد حُكيَ الفَتحُ فيهِما، وكَذا حُكيَ الضَّمُّ فيهِما، ولكنْ بالضَّمِّ هنا كما ذَكرنا على اللُّغَةِ المشهورَةِ، وفي بَعضِ النُّسَخِ: <لطُهورٍ> بِدونِ الضمير في آخِرِهِ، و(الطَّهارَةُ) في اللُّغَةِ: النَّظافَةُ والتَّنَزُّه.
          وجهُ المُناسَبَةِ بين البابينِ ظاهرٌ لا يَخفَى.
          (ص) وَقالَ أَبُو الدَّرْداءِ: أَلَيْسَ فِيكُمْ صاحِبُ النَّعْلَيْنِ والطَّهُورِ والوِسادِ؟
          (ش) هذا تعليقٌ أخرجَهُ موصولًا في (المناقب) : حدَّثنا موسى عن أبي عَوانَةَ، عن مُغيرَةَ، عن إبراهيم، عن عَلقَمَة: (دَخلتُ الشَّام، فَصلَّيتُ رَكعَتَين، فَقلتُ: اللَّهمَّ يَسِّر لِي جَليسًا صالِحًا، فَرأيتُ شَيخًا مُقبِلًا، فلمَّا دَنا؛ قلتُ: أرجُو أن يكونَ استَجابَ، قال: مِن أين أَنتَ؟ قُلتُ: مِن أهل الكُوفَةِ، قال: أَفَلَم يكن فيكم صاحِبُ النَّعلَيْنِ والوِسادِ والمَطهَرَةِ...؟ الحَديث.
          وأَرادَ بإخراجِ طَرَفِ هذا الحَديثِ هَهُنا مع حديث أَنسٍ ☺ التَّنبيهَ على ما تَرجَمَ عليه مِن حَملِ الماءِ إلى الكَنِيفِ؛ لأَجلِ التَّطهُّرِ.
          و(أَبُو الدَّرْداءِ) اسمُهُ عُوَيْمِر بن مالكِ بن عَبدِ اللهِ بن قَيس، ويُقال: عُوَيْمِر بن زَيدِ بن قَيسٍ، الأَنصارِيُّ، مِن أَفاضِلِ الصَّحابَةِ، وفَرَضَ له عُمَرُ ☺ رِزقًا، فألحَقَهُ بالبَدرِيِّين؛ لِجَلالَتِهِ، ووُلِّي قَضاءَ دِمشق في خِلافَةِ عُثمان ☺ ، ماتَ سَنَةَ إحدى _أو اثنَتينِ_ وثَلاثِين، وَقبرُهُ بباب الصَّغِيرِ بِدمَشقَ.
          قولُهُ: (أَلَيْسَ فيكُم؟) الخِطابُ فيهِ لأهلِ العِراقِ، ويدخل فيه عَلقَمَةُ بن قَيس، قالَ لَهُم حِين كانوا يَسأَلُونَهُ مسائِلَ، وأبو الدَّرداءِ كانَ يَكونُ بالشَّام؛ أي: لمَ لا تَسأَلُون مِن عَبد اللهِ بن مَسعُود وهو في العِراق وبينكم؟! لا يحتاج العِراقِيُّون مع وجوده إلى أهل الشام وإلى مِثلي.
          قولُهُ: (صاحِبُ النَّعلَينِ) أي: صاحِبُ نَعلَي رسولِ اللهِ صلعم ؛ [لأنَّ عبد اللهِ كانَ يُلْبِسُهما إيَّاهُ إذا قامَ، فإذا جَلَسَ؛ أَدْخَلَهما في ذِراعَيهِ، وإسنادُ النَّعلَين إليهِ مُجازٌ؛ لأجلِ المُلابَسَة، وفي الحَقِيقَةِ صاحبُ النَّعلَينِ هو رَسولُ اللهِ صلعم .
          قولُهُ: (والطَّهُورِ) هو بفتح الطَّاء لا غيرُ قَطعًا؛ إذ المراد صاحبُ الماء الذي يَتطهَّر به رسولُ الله صلعم ]
.
          قولُهُ: (والوِسادِ) بِكسرِ الواو، وبالسِّين المُهْمَلة، وفي آخِرِهِ دالٌ، وفي «المَطالِعِ»: قولُهُ: «صاحِبُ الوِسادِ والمَطهَرَةُ» يَعنِي: عبدَ اللهِ بنَ مسعود، كذا في «البُخاريِّ» من غير خلافٍ في «كِتابِ الطَّهارة»، وفي روايَةِ مالكِ بن إسماعِيل: ويُروى: الوِسادَةُ، أو السِّواد؛ بكسرِ السِّين، وكان ابن مسعودٍ ☺ يَمشِي مع النَّبِيِّ صلعم حيث تصَرَّفَ ويَخدُمَهُ، ويَحمِل مَطهَرَتَهُ وسِواكَهُ ونَعلَيهِ، وما يَحتاجُ إليهِ، فَلعلَّهُ أيضًا كان يَحمِلُ وِسادَهُ إذا احتاجَ إليهِ، وأمَّا أبو عُمَر؛ فإنَّه يَقولُ: كان يُعرَف بِصاحِبِ السِّوادِ؛ أي: صاحِبِ السِّرِّ؛ لقولِهِ: «إذنُكَ عليَّ أن تَرفَعَ الحِجاب وتَسمَعَ سِوادِي»، انتهى كَلامُهُ.
          وقال الكَرْمانِيُّ: ولعلَّ «السِّواد» و«الوِساد» هُما بِمعنًى واحدٍ، وكأنَّهما مِن بابِ القَلبِ، والمَقصُودُ منهُ: أنَّهُ ☺ صاحِبُ السِّرار، تقول: ساوَدَتهُ مُساودَةً وسِوادًا؛ أي: سارَرَتُهُ، وأَصلُهُ إدناءُ سَوادِكَ من سَوادِهِ؛ وهو الشَّخصُ، ويحتَمِلُ أنْ يُحمَلَ على مَعنَى المخدَّة؛ لكنَّهُ لَمْ يَثبُتْ.
          قلتُ: تصرُّف اللَّفظِ على احتِمالِ مَعانٍ لا يَحتاجُ إلى الثُّبوتِ.
          وقالَ الصَّغانِيُّ: ساوَدْتُ الرَّجلَ؛ أي: سارَرتْهُ، ومنهُ قول النَّبِيِّ صلعم لابنِ مَسعُود ☺ : «إذنُكَ عليَّ أن تَرفَعَ الحِجابَ وتَسمَعَ سِوادِي حتَّى أنْهاكَ»؛ أي: سِرارِي، وهو من إدناءِ السَّوادِ مِنَ السَّوادِ؛ أي: الشَّخص مِنَ الشَّخصِ، وقالَ: والوِسادُ والوِسادَةُ: المخدَّة، والجَمعُ: وُسْدٌ ووسائِد.