عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

ذكر معانيه
  
              

          ذِكْرُ مَعانِيه:
          قوله: (فَتَوَضَّأْ) وقد روى الشيخان هذا الحديثَ مِن طرقٍ عنِ البراءِ بنِ عازِبٍ، وليس فيها ذكرُ الوضوءِ إلَّا في هذه الروايةِ، وكذا قال التِّرْمِذيُّ.
          قوله: (أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ) وجاء في رواية أخرى: <أسلمت نفسي إليكَ> و(الوجه) و(النَّفْسُ) ههنا بمعنى الذَّاتِ، وقال ابنُ الجوزيِّ: يحتمل أن يُرادَ به الوجهُ حقيقةً، ويحتمل أن يُرادَ به القصدُ، فكأنَّه يقول: قصدتُكَ في طلب سلامتي، وقال القرطبيُّ: قيل: إنَّ معنى «الوجه»: القصدُ والعملُ الصالحُ؛ ولذلك جاءَ في روايةٍ: «أسلمتُ نفسي إليك»، و«وجَّهت وجهي إليك»، فجمع بينهما، فدلَّ على تغايُرِهما، ومعنى «أسلمت»: سلَّمْتُ واستسلمْتُ؛ أي: سلَّمتُها لك؛ إذ لا قدرةَ لي ولا تدبيرَ بجلبِ نفعٍ ولا دفعِ ضرٍّ، فأمرُها مُفوَّضٌ إليكَ، تفعلُ بها ما تريدُ، واستسلمتُ لِما تفعلُ، فلا اعتراضَ عليك فيه.
          قوله: (وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ) أي: ردَدْتُ أمري إليك، وبرِئْتُ مِنَ الحولِ والقوَّة إلَّا بكَ، فاكفِني همَّه، وتولَّني صلاحَه، وقال الطِّيبيُّ ☼ : في هذا النظمِ غرائبُ وعجائبُ لا يَعرِفُها إلَّا النُّقَّادُ مِن أهل البيانِ.
          قوله: (أَسْلَمْتُ نَفْسِي) إشارةً إلى أنَّ جوارحَه منقادةُ لله تعالى في أوامرِه ونواهيهِ.
          وقوله: (وَجَّهْتُ وَجْهِي) أي: أنَّ ذاتَه وحقيقتَه مخلصةٌ له بريئةٌ مِنَ النِّفاقِ.
          قوله: (وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ) إشارةً إلى أنَّ أمورَه الخارجةَ والدَّاخلةَ مُفوَّضةٌ إليه، لا مُدبِّرَ لها غيرُه, وقوله: (أَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ) بعدَ قولِه: (وَفَوَّضْتُ أَمْرِي) إشارةً إلى أنَّه بعدَ تفويضِه أمورَه التي يفتقرُ إليها، / وبها معاشُه، وعليها مدارُ أمرِه؛ يلتجِئُ إليه مِمَّا يضرُّه ويؤذيه مِنَ الأسبابِ الدَّاخلةِ والخارجةِ.
          قوله: (آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ) ويُروى: <آخر مَا تَكَلَّمُ به > بحذفِ إحدى التاءَين، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: < مِن آخِرِ ما تتكلَّمُ>.
          قوله: (لَا، ونَبِيِّكَ الَّذي أَرْسَلْتَ).
          قوله: (فَرَدَّدْتُهَا) أي: ردَّدْتُ هذه الكلماتِ؛ لأحفظهنَّ.
          قوله: (قَالَ: لَا) أي: لا تقل: ورسولِك، بل قلْ: ونبيِّك الذي أرسلتَ، وذكروا في هذا أوجُهًا؛ منها: أنَّهُ أمره أن يجمعَ بينَ صفتَيه _وهما: الرسولُ والنَّبِيُّ_ صريحًا وإن كانَ وصفُ الرِّسالةِ يستلزمُ وصفَ النُّبوَّةِ.
          ومنها: أنَّ ألفاظَ الأذكار توقيفيَّةٌ في تعيين اللَّفظِ وتقديرِ الثَّوابِ، فربَّما كان في اللَّفظِ زيادةُ تبيينٍ ليسَ في الآخرِ وإن كان يرادِفُهُ في الظاهر.
          ومنها: أنَّهُ لعلَّه أوحي إليه بهذا اللَّفظِ، فرأى أن يقفَ عنده.
          ومنها: أنَّه ذكرَه احترازًا ممَّن أُرسِلَ مِن غير نبوَّةٍ؛ كجبريلَ وغيرِهِ مِنَ الملائكةِ ‰ ؛ لأنَّهم رُسُلٌ، لا أنبياءُ.
          ومنها: أنَّهُ يحتمل أن يكونَ ردُّه دفعًا للتَّكرارِ؛ لأنَّه قال في الأَوَّل: (ونبيِّك الذي أرسلْتَ).
          ومنها: أنَّ (النَّبِيَّ) (فعيلٌ) بمعنى: فاعلٍ، مِنَ النَّبأ؛ وهو الخبرُ؛ لأنَّه أنبأَ عَنِ اللهِ تعالى؛ أي: أخبرَ، وقيل: إنَّهُ مُشتَقٌّ مِنَ النَّباوةِ؛ وهو الشيءُ المرتفِعُ، وردَّ النَّبِيُّ صلعم على البراء حينَ قال: (ونبيِّكَ الذي أرسلْتَ) بما ردَّ عليه؛ ليختلفَ اللَّفظان، ويجمع (النَّبأ) بين معنى الارتفاعِ والإرسالِ، ويكون تعديدًا للنِّعمة في الحالَين، وتعظيمًا للمنَّة على الوجهين.
          وقال بعضُهم: ولأنَّ لفظ «النَّبِيِّ» أمدحُ مِن لفظ «الرَّسول».
          قُلْت: هذا غيرُ مُوجَّهٍ؛ لأنَّ لفظَ (النَّبِيِّ) كيف يكون أمدحَ وهو لا يستلزمُ الرسالةَ؟! بل لفظ (الرسولِ) أمدحُ؛ لأنَّه يستلزم النُّبوَّة.