نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب

          ░150▒ (باب مَا يُتَخَيَّرُ) على البناء للمفعول (مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ) الفراغ من (التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلام وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ) يشير إلى أنَّ الدُّعاء السَّابق في الباب الذي قبله لا يجبُ، وإن كان قد ورد بصيغة الأمر، ثمَّ إنَّ المنفيَّ في قوله في الترجمة: وليس بواجبٍ يحتمل أن يكون الدُّعاء؛ أي: لا يجب دعاء مخصوص، وهذا واضحٌ مطابقٌ للحديث، وإن كان التخيُّر مأموراً به.
          ويحتمل أن يكون المنفيُّ التخيُّر، ويحمل الأمر الوارد به على النَّدب، ويحتاج إلى دليلٍ.
          قال ابن رُشَيد: ليس التخير في آحاد الشَّيء بدالٍّ على عدم وجوبه، وقد يكون أصل الشيء واجباً، ويقع التخيُّر في وصفه.
          وقال الزين ابن المُنيِّر: قوله: ثمَّ ليتخيَّر وإن كان بصيغة الأمر، لكنها كثيراً ما ترد للنَّدب، وادَّعى بعضُهم الإجماع على عدم الوجوب.
          وفيه نظرٌ؛ فقد أخرج عبد الرَّزَّاق بإسنادٍ صحيحٍ عن طاوس ما يدلُّ على أنَّه يرى وجوب الاستعاذة المأمور بها في حديث أبي هريرة (1) المذكور في الباب قبله، وذلك أنَّه سأل ابنه هل قالها بعد التَّشهُّد فقال: لا، فأمره أن يعيدَ الصَّلاة، وبه قال بعضُ أهل الظاهر، وأفرط ابن حزمٍ فقال بوجوبها في التشهُّد الأول أيضاً.
          وقال ابن المنذر: لولا حديث ابن مسعودٍ ☺: ((ثمَّ ليتخيَّر من الدُّعاء)) لقلتُ بوجوبها. وقد قال الشافعيُّ أيضاً بوجوب الصَّلاة على النَّبي صلعم بعد التشهُّد، وادَّعى أبو الطَّيب الطَّبري من أتباعه والطَّحاويُّ وآخرون: أنَّه لم يُسْبق إلى ذلك.
          واستدلُّوا على ندبيَّتها بحديث الباب مع دَعوى الإجماع، وفيه نظرٌ؛ لأنَّه ورد عن أبي جعفر الباقر والشَّعبي وغيرهما ما يدلُّ على القولِ بالوجوب.
          وأعجب من ذلك أنَّه صحَّ عن ابنِ مسعود ☺ راوي الحديث ما يقتضيهِ؛ فعند سعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ إلى أبي الأحوص قال: قال عبدُ الله: يتشهَّد الرَّجل في الصَّلاة، ثمَّ يصلِّي على النبيِّ صلعم ، ثمَّ يدعو لنفسه بعد.
          وقد وافق الشافعيُّ أحمد في إحدى الرِّوايتين عنه / وبعض أصحاب مالك، وقال إسحاق بن راهويه أيضاً بالوجوب، لكن قال: إن تركها ناسياً رجوتُ أن يجزئه.
          وقيل: إنَّ له في المسألة قولين كأحمد، وقيل: بل كان يراها واجبةً لا شرطاً.
          ومنهم من قيَّد تفرَّد الشافعيُّ بكونه عيَّنها بعد التشهُّد لا قبله، ولا فيه حتَّى لو صلَّى على النبيِّ صلعم في أثناء التشهُّد مثلاً لم يجزئ عنده.
          وسيأتي مزيد لهذا في كتاب ((الدَّعوات)) إن شاء الله تعالى [خ¦6328].


[1] كذا في الفتح ولعله: ((أبو بكر)) والله أعلم.