نجاح القاري لصحيح البخاري

باب إمامة العبد والمولى

          ░54▒ (بابُ) حكم (إِمَامَةِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى) أي: المولى الأسفل، وهو العتيق، ويروى: <والموالي> بالجمع.
          قال الزَّين ابن المُنيِّر: لم يفصح بالجواز، لكن لوَّح به لإيراده أدلَّته.
          (وَكَانَتْ عَائِشَةُ) ♦ (يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ) بفتح المعجمة وسكون الكاف، أبو عمرو عَبْدُ عائشةَ وخادمها، وقد دبَّرته، مات في أيَّام الحرَّة، أو قتل بها (فِي الْمُصْحَفِ)، وقد وصل هذا الأثرَ ابن أبي شيبة عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبي بكر بن أبي مُلَيكة، عن عائشة ♦: أنَّها أعتقت غلاماً لها عن دُبُرٍ، فكان يؤمُّها في رمضان في المصحف.
          وروي أيضاً عن ابن عُلَيَّة عن أيُّوب: سمعتُ القاسم يقول: يؤمُّ عائشة عبد يقرأ في المصحف. ووصله الشَّافعي وعبد الرَّزَّاق من طريق أخرى عن ابن أبي مُليكة: أنَّه كان يأتي عائشة بأعلى الوادي هو وأبوه، / وعُبَيد بن عُمَير، والمسور بن مخرمة، وناس كثير، فيؤمُّهم أبو عمرو مولى عائشة ♦، وهو يومئذٍ غلامٌ لم يُعتق، وأبو عَمرو هذا هو ذكوان المذكور، والغلام هو الذي لم يحتلمْ، ولكن الظَّاهر أنَّ المراد هو المراهق، وهو كالبالغ.
          ووصله أيضاً ابن أبي داود في كتاب «المصاحف» من طريق أيُّوب عن ابن أبي مُليكة: أنَّ عائشة ♦ كان يؤمُّها غلامها ذكوان في المصحف.
          ففي هذا الأثر جواز القراءة في المصحف في الصَّلاة، وبه قال الشَّافعي وأحمد في رواية وأبو يوسف ومحمَّد، قالوا: لأنَّ النظر في المصحف عبادة، ولكن يكره؛ لما فيه من التشبُّه بأهل الكتاب في هذه الحالة.
          وعن الحسن قال: هكذا يفعل النَّصارى، وهو قول النَّخعي وسعيد بن المسيَّب والشَّعبي في رواية عنهما، وسليمان بن حنظلة ومجاهد بن جبر وحماد وقتادة والحسن في رواية عنه. وأجازه مالك وأحمد في روايةٍ في النفل فقط، وعن مالك: أنَّه أجازه في قيام رمضان.
          وأمَّا مذهب أبي حنيفة ☼ : أنَّ القراءة في المصحف في الصَّلاة فرضاً أو نفلاً مفسدةٌ؛ لأنَّه عمل كثير من حيث أنَّه فيه حمل المصحف والنَّظر فيه، وتقليب الأوراق، ولأنَّه تلقُّن من المصحف، فصار كما إذا تلقَّن من غيره. وبه قال ابن المسيَّب والشَّعبي والحسن في رواية عنهم، وأبو عبد الرحمن السُّلمي.
          وأمَّا إمامة العبد فقد قال أصحابنا: يُكره إمامة العبد؛ لاشتغاله بخدمة مولاه. وأجازها أبو ذرٍّ، وحذيفة، وابن مسعود ♥ ، ذكره ابن أبي شيبة بإسناد صحيحٍ، وصلَّى سالم خلف زياد مولى أمِّ الحسن، وهو عبدٌ، وأجازها أيضاً من التَّابعين ابن سيرين والحسن وشريح والنَّخعي والشَّعبي والحكم.
          وقال النَّخعي: ربَّ عبدٍ خير من مولاه، ومن الفقهاء الثَّوري وأبو حنيفة وأحمد والشَّافعي وإسحاق. وقال مالك: تصحُّ إمامته في غير الجمعة؛ لأنَّها لا تجب عليه، وفي رواية عنه: لا يؤمُّ إلا إذا كان قارئاً، ومن خلفه من الأحرار لا يقرؤون، ولا يؤمُّ في يوم جمعة ولا عيد.
          وعن الأوزاعي: لا يؤمُّ إلَّا أهله. وممَّن كره الصَّلاة خلفه أبو مجلزٍ فيما ذكره ابن أبي شيبة، والضَّحاك، ولا شكَّ أنَّ الحرَّ أولى منه؛ لأنه مَنْصِبٌ، فالحرُّ أليق.
          (وَوَلَدِ الْبَغِيِّ) عطف على قوله: «والمولى»، فصلَه عنه بأثر عائشة ♦، وغفل القرطبي في «مختصر البخاري» فجعله من بقيَّة الأثر المذكور. ثمَّ البَغِّي _بفتح الموحدة وكسر الغين المعجمة وتشديدها_ بمعنى الزَّانية. ونقل ابن التِّين: أنَّه رواه بفتح فسكون من غير تشديد.
          ثمَّ إمامة ولد الزِّنا جائزة عند الجمهور، وبه قال النَّخعي والشَّعبي وعطاء والحسن. / وقالت عائشة ♦: ليس عليه من وزر أبويه شيء. ذكره ابن أبي شيبة، وإليه ذهب أيضاً الثَّوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمَّد بن عبد الحكم، وكرهها عمر بن عبد العزيز ومجاهد ومالك إذا كان راتباً، وعلَّته عند مالك أنَّه يصير معرَّضاً لكلام النَّاس فيأثمون بسببه. وقيل: لأنَّه ليس له في الغالب من يثقِّفه ويعلِّمه، فيغلب عليه الجهل.
          وقال أصحابنا الحنفيَّة: يكره إمامة ولد الزِّنا؛ لأنه يُستَخفُّ به، فإن تقدَّم جازت الصَّلاة. وقال الشَّافعي: وأكره أن يُنَصَّبَ من لا يُعْرَف أبوه إماماً. وقال ابنُ حزم: الأعمى والخصي والعبد وولد الزنا، وأضدادهم، والقرشيُّ سواء لا تفاضل بينهم إلَّا بالقراءة.
          (وَالأَعْرَابِيِّ) بالجر عطف على ((ولد البغي))، وهو _بفتح الهمزة_ وقد نسب إلى الجمع؛ لأنَّه صار علماً لسكَّان البادية، وهو في حكم المفرد، وليس جمعاً للعرب كما توهَّم النضر وغيره، وإنَّما سمُّوا أعراباً؛ لأنَّهم عرب تجمَّعت من هاهنا وهاهنا. وإلى صحَّة إمامته ذهب الجمهور.
          وأجاز أبو حنيفة ☼ إمامته مع الكراهة؛ لغلبة الجهل عليه، وبه قال الثَّوري والشَّافعي وإسحاق. وصلَّى ابن مسعود ☺ خلف أعرابي. ولم يَرَ بها بأساً إبراهيمُ والحسن وسالم، وخالف الجمهور مالك، وعلَّته عنده غلبة الجهل على سكَّان البوادي، وقيل: لأنَّهم يديمون نقص السُّنن، وترك حضور الجماعة غالباً.
          (وَالْغُلاَمِ) المميز (الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ) بالجر عطفاً على سابقه، الظَّاهر أنَّه أراد: المراهق، ويحتمل الأعم، لكن يخرج منه مَنْ دون سنِّ التَّمييز بدليلٍ آخر.
          ولعل المؤلِّف ☼ راعى اللَّفظ الوارد في النَّهي عن ذلك، وهو ما رواه عبد الرَّزَّاق من حديث ابن عبَّاس ☻ مرفوعاً: ((لا يؤم الغلام حتَّى يحتلم))، وإسناده ضعيفٌ.
          وقد أخرج المؤلِّف في ((غزوة الفتح)) حديث عَمرو بن سلِمة _بكسر اللام_ أنَّه كان يؤمُّ قومه، وهو ابن سبع سنين [خ¦4302]. وقيل: إنَّما لم يستدلَّ به هنا؛ لأنَّ أحمد بن حنبل توقَّف فيه، فقيل: إنَّه ليس فيه اطِّلاع النَّبي صلعم على ذلك. وقيل: لاحتمال أن يكون أراد أنَّه كان يؤمُّهم في النَّافلة دون الفريضة.
          وأجيب عن الأوَّل: بأنَّ زمان نزول الوحي لا يقع فيه لأحد من الصَّحابة التَّقرير على ما لا يجوز فعله، ولهذا استدلَّ أبو سعيد وجابر ☻ على جواز العزل بأنَّهم كانوا يعزلون، والقرآن ينزل كما سيأتي في موضعه [خ¦5207] [خ¦5210]. وأيضاً فالوفد الذين قدَّموا / عمرو بن سلِمة كانوا جماعة من الصَّحابة ♥ .
          وعن الثَّاني: بأنَّ سياق رواية المؤلِّف يدلُّ على أنَّه كان يؤمُّهم في الفرائض؛ لقوله فيه: ((صلُّوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصَّلاة)) الحديث. وفي رواية لأبي داود قال عمرو: فما شهدت مشهداً في جَرْمٍ إلَّا كنت إمامهم، وهذا يعمُّ الفرائض والنَّوافل.
          واحتجَّ ابن حزم على عدم الصحَّة: بأنَّه صلعم أمر أن يؤمَّهم أقرأهم. قال: فعلى هذا إنَّما يؤمُّ من يتوجَّه إليه الأمر، والصَّبي ليس بمأمور؛ لأنَّ القلم مرفوع عنه فلا يؤمهم، ولقائل أن يقول: المأمور من يتوجَّه إليه الأمر من البالغين، فإنَّهم يقدِّمون من اتَّصف بكونه أكثر قرآناً، فافهم.
          ثمَّ إنَّه يفهم من سياق البخاري أنَّه يجوِّز إمامة الصَّبي الذي يعقل، وهو مذهب الشَّافعي، وإليه ذهب الحسن البصري، ومذهب أبي حنيفة ☼ : أنَّ المكتوبة لا تصحُّ خلفه، وبه قال أحمد وإسحاق. وفي النفل روايتان عن أبي حنيفة، والمختار: أنَّه لا يجوز في الصَّلوات كلها؛ لأنَّ نفل الصَّبي دون نفل البالغ حيث لا يلزمه القضاء بالإفساد بالإجماع، ولا يبني القويُّ على الضَّعيف، بخلاف اقتداء الصَّبي بالصَّبي؛ لأنَّ الصَّلاة متَّحدة، كذا في «الهداية». وبالجواز في النَّفل قال أحمد. وقال داود: لا تصحُّ فيهما، وحكاه ابن أبي شيبة عن الشَّعبي ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وعطاء. وكرهها مالك والثَّوري.
          وأمَّا ما نقله ابن المنذر عن أبي حنيفة وصاحبيه: أنَّها مكروهة؛ فقد قال محمود العيني: لا يصحُّ هذا النَّقل، والله أعلم.
          (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ) أي: فكلُّ من اتَّصف بذلك جازت إمامته من: العبد، وولد البغي، والأعرابي، والصَّبي؛ أي: الحديث لم يفرِّق بين المذكورين وغيرهم، ولكن الَّذي يظهر من هذا أنَّ إمامة أحدٍ من هؤلاء إنَّما تجوز إذا كان أقرأ القوم.
          ألا ترى أنَّ الأشعث بن قيس قدَّم غلاماً، فعابوا ذلك عليه فقال: ما قدَّمته، ولكن قدَّمت القرآن العظيم. ثمَّ هذا القولَ تعليقٌ وهو طرف من حديث أبي مسعود، وقد ذُكر في باب «أهل العلم أحق بالإمامة»، وقد أخرجه مسلم، وأصحاب السُّنن بلفظ: ((يؤمُّ القوم أقرأهم لكتاب الله)) الحديث.
          وفي حديث عَمرو بن سِلمة المذكور عن أبيه عن النَّبي صلعم قال: ((وليؤمُّكم أكثركم قرآناً)). وفي حديث أبي سعيد ☺ عند مسلم: ((إذا كانوا ثلاثة فليؤمُّهم أحدهم، وأحقُّهم بالإمامة أقرأهم)). ولأبي داود من حديث ابن عبَّاس ☻ : ((وليؤمكم أقرؤكم)). واستدلَّ بقوله: ((أقرؤهم)) على أنَّ إمامة الكافر لا تصح؛ لأنَّه لا قراءة له، فتأمَّل.
          (وَلَا يُمنَعُ العَبدُ مِنَ الجَمَاعةِ) أي: من حضورها، ويروى: <عن الجماعة> (بِغَيْر) ويروى: <لغير> (عِلَّة) أي: ضرورة، ولا حاجة إلى تقييدها بكونها لسيِّده؛ لأنَّ عند الضرورة ليس عليه الحضور مطلقاً كما في حقِّ الحرِّ، / وهذه الجملة معطوفة على التَّرجمة، وليست من الحديث المعلَّق.
          وإنَّما لا يمنع العبد من حضور الجماعة؛ لأنَّ حقَّ الله مقدَّم على حقِّ المولى في باب العبادة، وقد ورد وعيد شديد في ترك حضور الجماعة بغير ضرورة.