نجاح القاري لصحيح البخاري

باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف

          ░76▒ (بابُ إِلْزَاقِ) أي: إلصاق (الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ، وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ فِي الصَّفِّ) وأشار بهذا إلى المبالغة في تعديل الصُّفوف، وسدِّ الخلل فيها، وقد ورد الأمر بسدِّ الخلل في الصفِّ، والتَّرغيب فيه في أحاديث كثيرة:
          منها: ما رواه أبو داود من حديث محمَّد بن مسلم بن السَّائب صاحب المقصورة، قال: صلَّيت إلى جنب أنس بن مالك ☺ يوماً فقال: هل تدري لم صُنِع هذا العود؟ فقلت: لا والله، قال: كان رسول الله صلعم يضع يده عليه فيقول: ((استووا عدِّلوا صفوفَكُم)).
          ثمَّ قال:حَدَّثَنَا مسدَّد:حَدَّثَنَا حميد بن الأسود:حَدَّثَنَا مصعب بن ثابت، عن محمَّد بن مسلم، عن أنس بن مالك ☺ بهذا الحديث. قال: إنَّ رسول الله صلعم كان إذا قام إلى الصَّلاة أخذ بيمينه ثمَّ التفت فقال: ((اعتدلوا سوُّوا صفوفَكُم)) ثمَّ أخذه بيساره، وقال: ((اعتدلوا سوُّوا صفوفكم)). وفي لفظ: ((رُصُّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا الأعناق)) الحديث. وفي لفظ: ((أتمُّوا الصفَّ المقدَّم ثمَّ الذي يليه، فما كان من نقصٍ فليكن في الصفِّ المؤخَّر)).
          ومنها: ما رواه ابن حبَّان في «صحيحه»: عن البراء بن عازب ☺: كان رسول الله صلعم يتخلَّل الصفَّ من ناحية إلى ناحية يمسحُ صدورَنَا ومناكبَنَا، ويقول: ((لا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكُم)). وفي لفظ: ((فيمسح عواتقَنا وصدورَنا)). وعند السَّرَّاج: ((مناكبنا _أو: صدورنا_)). وفي لفظ: ((كان يأتي من ناحية الصفِّ إلى ناحيته القُصوى يسوِّي بين رؤوس القوم ومناكبهم)). وفي لفظ: ((يمسح عواتقنا _أو قال: / مناكبنا، أو قال: صدرونا_، ويقول: لا تختلف صدورُكُم فتختلفَ قلوبُكُم)).
          ومنها: ما رواه أبو داود، وصحَّحه ابن خزيمة، والحاكم عن ابن عمر ☻ ، وهو أجمع. ولفظه: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((أقيموا الصُّفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، ولِينوا بأيدي إخوانكُم، ولا تذروا فرجاتٍ للشَّيطان، ومن وصلَ صفًّا وصلَه الله، ومن قطعَ صفًّا قطعَه الله)).
          قوله: ((ولينوا بأيدي إخوانكم)): قال أبو داود: معناه: إذا جاء رجل إلى الصفِّ، فذهب يدخل فيه فينبغي أن يليِّن له كلُّ رجل منكبه حتَّى يدخل في الصفِّ.
          (وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ) بن ثعلبة الأنصاري الخزرجيُّ، أبو عبد الله المدني، صاحب رسول الله صلعم ، وابن صاحبه، وهو أوَّل مولود ولد في الأنصار بعد قدوم النَّبي صلعم .
          وقال يحيى بن معين: أهل المدينة يقولون: لم يسمع من رسول الله صلعم ، وأهل العراق يصحِّحون سماعه منه، قُتِل فيما بين دمشق وحمص، وكان زبيريًّا.
          وعن أبي مسهر: كان عاملاً على حمص لابن الزُّبير، فلمَّا تمرَّد أهل حمص خرج هارباً، فاتبعه خالد بن خَلِي فقتله، وقيل: قتل في سنة ست وستين بسلميّة.
          (رَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ) من الإلزاق؛ أي: يلصق (كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ) أي: بكعب الذي بحذاءهِ، وهذا يدلُّ على أنَّ المراد بالكعب في آية الوضوء هو العظم النَّاتئ في جانبي الرَّجل عند ملتقى السَّاق والقدم، إذ هو الذي يمكن أن يلزق بالذي بجنبه.
          قال الحافظ العسقلانيُّ خلافاً لمن ذهب إلى أنَّ المراد بالكعب هو مؤخَّر القدم، وهو قول شاذ ينسب إلى بعض الحنفيَّة، ولم يثبته محقِّقوهم، وأثبته بعضُهم في مسألة الحجِّ لا الوضوء.
          وقال محمود العيني: روى هشام عن محمَّد بن الحسن هذا التَّفسير، ولكنَّه ما أراد بهذا الذي في باب الوضوء، ولكن مراده الذي في باب الحج، فنسبة هذا إلى بعض الحنفيَّة غير صحيحة. انتهى. وأنت خبيرٌ بأنَّه غير وارد على الحافظ العسقلاني، كما يظهر بالنَّظر إلى كلامه، فتفطَّن.
          وأمَّا قول من زعم أنَّ الكعب ما في ظهر القدم؛ فقد أنكره الأصمعي.
          ثمَّ إنَّ هذا التَّعليق طرف من حديث أخرجه أبو داود، وصحَّحه ابن خزيمة، وأخرجه ابن حبَّان أيضاً في «صحيحه» من رواية أبي القاسم الجَدَلي _نسبة إلى جديلة قيس، واسمه: حسين بن حُرَيث_ قال: سمعت النُّعمان بن بشير ☺ يقول: أقبل رسول الله صلعم على النَّاس بوجهه فقال: ((أقيموا صفوفكم ثلاثاً، والله لَتُقيمُنَّ صفوفكم، أو ليخالفنَّ الله بين قلوبكم)) قال: فلقد رأيت الرَّجل منَّا يلزق منكبه بمنكبِ صاحبه، / وكعبه بكعبه.