نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم

          ░68▒ (بابٌ) بالتنوين، ورفع قوله: (الرَّجُلُ) أو بالإضافة إليه وجرِّه (يَأْتَمُّ بِالإِمَامِ، وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ) الذي اقتدى بالإمام.
          قال ابن بطَّال: هذا موافقٌ لقول مسروق والشَّعبي: إنَّ الصُّفوف يؤمُّ بعضها بعضاً خلافاً للجمهور، وليس المراد أنَّهم يأتمُّون بعضهم ببعض في التَّبليغ فقط كما فهمه بعضهم، بل الخلاف معنوي؛ لأنَّ الشَّعبي قال فيمن أحرم قبل أن يرفع الصفَّ الأوَّل رؤوسهم من الرَّكعة إنَّه أدركها، ولو كان الإمام رفع قبل ذلك؛ لأنَّ بعضهم لبعض أئمَّة. انتهى.
          فهذا يدلُّ على أنَّه يرى أنَّهم يتحمَّلون بعضهم عن بعض ما يتحمَّله الإمام؛ أي: كلُّ واحد من الجماعة إمام للآخر مع كونهم مأمومين. وأثر الشَّعبي الأوَّل وصله عبد الرَّزَّاق، والثَّاني وصله ابن أبي شيبة، ولم يفصح البخاري باختياره في هذه المسألة؛ لأنَّه بدأ بالتَّرجمة الدالَّة على أنَّ المراد بقوله: ((ويأتم النَّاس بأبي بكر))؛ أي: أنَّه في مقام المبلِّغ، ثمَّ ثنَّى بهذه الرِّواية التي أطلق فيها اقتداء النَّاس بأبي بكر ☺، ورشح ظاهرها بظاهر الحديث المعلَّق، فيحتمل أن يكون يذهب إلى قول الشَّعبي، ويرى أنَّ قوله في الرِّواية الأولى: ((يسمع النَّاس التَّكبير)) لا ينفي كونهم يأتمُّون به؛ لأنَّ إسماعه لهم التَّكبير جزء من أجزاء / ما يأتمُّون به فيه، وليس فيه نفي لغيره.
          ويؤيِّد ذلك رواية الإسماعيلي من طريق عبد الله بن داود المذكور ووكيع جميعاً عن الأعمش بهذا الإسناد. وقال فيه: ((والنَّاس يأتمُّون بأبي بكر ☺، وأبو بكر يُسْمِعهم)).
          (وَيُذْكَرُ) بضم أوله وفتح ثالثه (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه قال مخاطباً لأهل الصَّف الأوَّل (ائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ) بفتح الميم في محل الرفع على أنَّه فاعل قوله: ((وليأتم)).
          وقوله: (بَعْدَكُمْ) ظرف مستقر مقدَّر بالفعل صلته، ومعناه عند الجمهور: وليستدلَّ من بعدكم من الصُّفوف بأفعالكم على أفعالي لا أنَّهم يقتدون بكم؛ لأنَّ الاقتداء لا يكون إلَّا بإمام واحد، وقد تقدَّم آنفاً مذهب من يأخذُ بظاهره.
          وقيل: معناه: تعلَّموا مني أحكام الشَّريعة، وليتعلَّم منكم التَّابعون بعدكم، وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدُّنيا.
          ثمَّ إن هذا التَّعليق طرف من حديث أخرجه مسلم في «صحيحه» عن الدَّارمي:حَدَّثَنَا محمَّد بن عبد الله الرَّقاشي: حدَّثنا بشر بن منصور، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري ☺: أنَّ رسول الله صلعم رأى في أصحابه تأخُّراً فقال لهم: ((تقدَّموا فائتمُّوا بي، وليأتمَّ بكم من بعدكم، ولا يزالُ قوم يتأخَّرون حتَّى يؤخِّرهم الله ╡)). وأخرجه أبو داود والنَّسائي وابن ماجه أيضاً من رواية أبي نضرة عنه.
          وقوله: ((ولا يزال قوم يتأخَّرون)) أي: عن الصُّفوف الأُوَل ((حتى يؤخِّرهم الله)) عن عظيم فضله، ورفيع منزلته، أو نحو ذلك. وفي هذا التَّعليق: جواز اعتماد المأموم في متابعة الإمام الذي لا يراه ولا يسمعه، على مُبَلِّغ عنه، أو صف قدَّامه يراه متابعاً للإمام.
          ثمَّ إنَّه قيل: وإنَّما ذكره البخاري بصيغة التَّمريض؛ لأنَّ أبا نضرة ليس على شرطه لضعفٍ فيه.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: هذا عندي ليس بصواب؛ لأنَّه لا يلزم من كونه على غير شرطه أنَّه لا يصلح عنده للاحتجاج به، بل قد يكون صالحاً للاحتجاج به عنده، وليس هو على شرط صحيحه الذي هو أعلى شروط الصِّحة.
          والحقُّ أن هذه الصِّيغة لا تختصُّ بالضَّعيف، بل قد تستعمل في الصَّحيح أيضاً، بخلاف صيغة الجزم، فإنَّها لا تستعملُ إلَّا في الصَّحيح. انتهى.
          وتعقَّبه محمود العيني: بأنَّ الذي ذكره يخرم قاعدته؛ لأنَّه إذا لم يكن على شرطه كيف يحتجُّ به؟ وإلا فلا فائدة لذلك الشَّرط، هذا فليتأمَّل.