نجاح القاري لصحيح البخاري

باب وجوب صلاة الجماعة

          ░29▒ (بابُ وُجُوبِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ) وقد اختلف العلماء فيه، وظاهر نصوص الشَّافعي أنَّها من فروض الكفايات. وقال أحمد: إنَّها فرض عين، وقال أبو حنيفة ومالك: إنَّها سنَّة، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى مفصَّلاً [خ¦644].
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: هكذا بتَّ الحكم في هذه المسألة، وكأنَّ ذلك / لقوَّة دليلها عنده، لكن أطلق الوجوب وهو أعمُّ من أن يكون وجوب عين، أو وجوب كفاية إلَّا أنَّ الأثر الذي ذكره عن الحسن يُشعِر بكونه يريد أنَّه وجوب عين، لما عُرِف من عادته أنَّه يستعمل الآثار في التَّراجم لتوضيحها وتكميلها، وتعيين أحد المحتمِلات في حديث الباب، وبهذا يُجاب مَن اعترض عليه بأنَّ قول الحسن يستدلُّ له لا به، انتهى.
          وتعقَّبه محمود العيني: بأنَّ هذه القسمة إنَّما هي في الفرض، فيقال: فرضُ عينٍ، وفرضُ كفاية، اللَّهمَّ إلَّا أن يكون هذا عند من لم يفرِّق بين الواجب والفرض، ومن أين عُلم أنَّ البخاري أراد وجوب العين؟ ومن أين يدلُّ عليه أثرُ الحسن؟ وكيف يجوزُ الاستدلال على وجوب العين (1) بالأثر المرويِّ من التابعيِّ؟ وهذا محلُّ النَّظر، انتهى فتأمَّل.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصري (إِنْ مَنَعَتْهُ) أي: الرَّجل (أُمُّهُ عَنِ) الحضور إلى صلاة (الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ) وفي رواية: <في جماعة> بالتَّنكير (شَفَقَةً) أي: لأجل شفقتها (عَلَيْهِ)، وسقط في رواية لفظ: <عليه> (لَمْ يُطِعْهَا) أي: لم يطع أمَّه فيه، فهذا يدلُّ على أنَّ الصَّلاة بالجماعة فرض عين عنده، ولهذا قال: لم يطع أمَّه مع أنَّ طاعة الوالدين فرض في غير المعصية، وترك الجماعة معصية عنده، وإنَّما عيَّن العشاء مع أنَّ الحكم في كلِّ الصلوات كذلك؛ لكونها من أثقل الصَّلوات على المنافقين، ثمَّ الفجرُ وإن كان كذلك لكنْ ذِكْرُ أحدهما يغني عن الآخر فافهم، وإنَّما عيَّن الأمَّ مع أنَّ الأب كذلك في وجوب الطَّاعة؛ لأنَّ الأمَّ أكثر شفقة من الأب على الأولاد.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: ولم ينبِّه أحد من الشُّرَّاح على مَنْ وصل أثر الحسن، وقد وجدته بمعناه وأتمَّ منه وأصرح، في كتاب «الصِّيام» للحسين بن الحسن المروزي بإسنادٍ صحيحٍ عن الحسن في رجل يصوم _يعني: تطوُّعاً_ فتأمره أمُّه أن يفطرَ، قال: فليفطرْ ولا قضاء عليه، وله أجر الصَّوم وأجر البرِّ، قيل: فتنهاه أن يصلِّي العشاء في جماعة قال: ليس ذلك لها هذه فريضة.
          وقد أبدى الشَّيخ قطب الدِّين القسطلانيُّ ☼ فيما نقله البرماويُّ في «شرح عمدة الأحكام» لمشروعيَّة الجماعة حكمةً ذكرها في مقاصد الصَّلاة، منها: قيام نظام الأُلفَة بين المصلِّين، ولذا شُرِعَت المساجد في المحالِّ ليحصل التَّعاهد باللِّقاء إلى أوقات الصَّلوات وبين الجيران.
          ومنها: أنَّه قد يتعلَّم الجاهل من العالم ما يجهله من أحكامها. ومنها: أنَّ مراتب النَّاس متفاوتةٌ في العبادة فيعمُّ بركة الكامل على النَّاقص، فتكمل صلاة الجميع.


[1] ((من قوله: ومن أين... إلى قوله: وجوب العين)): ليس في (خ).