نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من لم ير التشهد الأول واجبًا لأن النبي قام من الركعتين

          ░146▒ (بابُ مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الأَوَّلَ وَاجِباً) أي: في الجلسة الأولى من الثُّلاثية والرُّباعية، والمراد من التشهُّد: تشهد الصَّلاة وهو تفعل من تشهَّد، سمِّي به؛ لأنَّ فيه النُّطق بشهادة الحقِّ تغليباً لها على بقيَّة أذكاره؛ لشرفها من حيث إنَّه كلام به يصير الشَّخص مؤمناً ويرفع عنه السَّيف، وينتظم في سلك الموحدين، وبه النَّجاة في الدنيا والآخرة، واستدلَّ المؤلِّف لما ترجم له بقوله:
          (لأَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَرْجِعْ) إلى التَّشهد ولو كان واجباً لرجع إليه لمَّا سبَّحوا به بعد أن قام، كما سيأتي بيانه في الكلام على حديث الباب في أبواب ((سجود السَّهو)) [خ¦1224] [خ¦1225].
          ويعرف منه أنَّ قول ناصر الدين ابن المُنيِّر في الحاشية لو كان واجباً لسبَّحوا به ولم يسارعوا إلى الموافقة على التَّرك غفلةً عن الرِّواية المنصوص فيها أنَّهم سبَّحوا به، قاله الحافظ العسقلانيُّ.
          والبخاريُّ ممَّن يرى عدم وجوب التُّشهد الأول.
          وقال الزين ابن المُنيِّر: ذكر في هذه الترجمة الحكم ودليله ومع ذلك لم يثبت الحكم، كأن يقول: باب لا يجب التشهُّد الأول، وسببه ما يطرق الدَّليل المذكور من الاحتمال.
          وقد أشار إلى معارضته في التَّرجمة التي تلي هذه حيث أوردها بنظير ما أورد به التَّرجمة التي بعدها، وفي لفظ حديث الباب فيها ما يُشعِر بالوجوب حيث قال: ((وعليه جلوس)) وهو محتمل أيضاً انتهى.
          وفي «التوضيح»: فقهاء الأمصار أبو حنيفة ومالك والثوري والشافعي وإسحاق والليث وأبو ثور على أنَّ التشهد الأوَّل غير واجب _أي: فرض_ حاشا أحمد فإنَّه أوجبه؛ أي: جعله فرضاً، كذا نقله ابن القصَّار. ونقله ابن التِّين أيضاً عن الليث وأبي ثور، وفي بعض «شروح الهداية» قراءة التشهد في القعدة الأولى واجبة عند أبي حنيفة وهو المختار والصَّحيح، وقيل: سنَّة، وهو الأقيس لكنَّه خلاف ظاهر الرواية.
          وفي «المغني»: إن كانت الصَّلاة مغرباً أو رباعية فهما واجبان فيهما على إحدى الرِّوايتين عن أحمد وهو مذهب الليث وإسحاق؛ لأنَّه صلعم فعله وداوم عليه، وأمر به في حديث ابن عباس ☻ بقوله: ((قولوا: التحيَّات لله)) وجبره بالسَّهو حين نسيه، وقال: ((صلُّوا كما رأيتُمُوني أصلِّي)). وفي مسلم: عن عائشة ♦: وكان يقول في كلِّ ركعتين تحيَّة.
          وللنسائيِّ من حديث ابن مسعود ☻ مرفوعاً: ((إذا قعدتُم في كلِّ ركعتين فقولوا: التحيات)) الحديث.
          وحديث المسيء [خ¦757] وحديث رفاعة الذي مضى [خ¦799]، وروي عن عمر ☺ أنَّه قال: ((من لم يتشهَّد فلا صلاة له))، وحجَّة الجمهور هو قوله؛ لأنَّ النبيَّ صلعم قام من الركعتين؛ يعني: إلى الثالثة وترك التشهُّد ولم يرجع إلى التَّشهد ولو كان واجباً لوجب عليه التَّدارك حين علم أنَّه تركه وما أتى به بل جبره بسجود السَّهو، وهو لا ينوب عن الواجب؛ أي: الفرض لأنَّه لو نسي تكبيرة الإحرام لم يجبر فكذلك التشهُّد، ولأنَّه ذكر لا يجهر به / بحال فلم يجب كدعاء الافتتاح.
          وقال التيميُّ: سجوده نائبٌ عن التَّشهد والجلوس ولو كانا واجبين لم ينبْ منابهما سجود السَّهو كما لا ينوب عن الركوع وسائر الأركان.
          وقال غيره: يدلُّ على عدم الوجوب تقريره صلعم الناس على متابعته بعد أن علم أنَّهم تعمَّدوا تركه، وفيه نظرٌ.
          واحتجَّ الطبريُّ لوجوبه بأنَّ الصَّلاة فرضتْ أولاً ركعتين وكان التشهُّد فيها واجباً فلمَّا زيدت لم تكن الزِّيادة مزيلة لذلك الواجب.
          وأُجيب: بأنَّ الزِّيادة لم تتعيَّن في الأخريين بل يحتمل أن تكونا هما الفرض الأول، والمزيد هما الركعتان الأوليان بتشهدهما، ويؤيِّده استمرارُ السلام بعد التَّشهد الأخير كما كان، فتأمل.
          واحتجَّ أيضاً بأنَّ من تعمَّد ترك الجلوس الأول بطلتْ صلاته، وهذا لا يَرِدُ لأنَّ من لا يُوجبه لا يبطل الصلاة بتركه.