مقاصد التنقيح إلى شرح الصحيح

باب قول الله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}

          ░56▒ (بَاب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96])
          أي: الله خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها، وقيل: وخلق أعمالكم، و({مَا}) مصدريَّة، وهذا دليلٌ على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
          قوله تعالى: ({إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ(1) } [القمر:49])؛ أي: كلُّ شيءٍ مخلوقٌ فقد خلقناه على قدرٍ نعلمه، لا نزيد على ما قدَّرناه ولا ننقص منه، وقيل: أي: كلُّ شيءٍ مخلوق فهو(2) مكتوبٌ في اللَّوح المحفوظ قبل وقوعه.
          قوله: (وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِ) هو ما يجيء في الباب.
          قوله تعالى: ({إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ} [الأعراف:54]) سبق تفسير الآية قريبًا في (باب قول الله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} [الكهف:109]).
          قوله: (أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟) مضى بيان الحديث في (باب مَن قال: الإيمان هو العمل) مِن (كتاب الإيمان).
          قوله تعالى: ({جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17])؛ أي: جزاء(3) ما كانوا يعملونه مِن طاعة الله.
          قوله: (وَقَالَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ) هو ما رواه ابن عبَّاسٍ، ويجيء في الباب مبسوطًا.
          قال الشيخ السهرورديُّ: ليس لأحدٍ مِنَ الخلق قدرة إلَّا بما قدَّر الله تعالى، فالله الخالق القادر، وخالق قدرته؛ أي: قدرة الخلق، فقدرة القادر وفعل الفاعل كتأثير الشمس بالحرارة، فالشمس خلق الله، وتأثيرها في الأشياء أيضًا خلق الله؛ لأنَّ المؤثِّر إذا كان خلقًا يكون الأثر خلقًا، وإذا كان الفاعل خلقًا يكون الفعل خلقًا، فإن ظنَّ الظانُّ أنَّ الفاعل ذو إرادةٍ بخلاف الشمس؛ يقال: تلك / الإرادة أيضًا أثرٌ مِنَ المريد، والمريد خلق فيكون إرادته خلقًا(4)، فإن أسند الإرادة إلى العلم فيقول: العلم أثرٌ ووصفٌ للعالم، وإذا كان الموصوف خلقًا يكون الوصف أيضًا خلقًا، فإن قلت: إذا كان الله تعالى خالق الفعل فكيف يعاقب على شيءٍ خلقه؟ فنقول(5) : كما يعاقب خلقًا خلقه، وليس عقوبته على ما خلق بأبعد مِن عقوبته على مَن خلق، يفعل(6) ما يشاء ويحكم ما يريد، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ثمَّ اعلم بأنَّ الله تعالى خلق الكافر وكفره، وخلق الفاسق وفسقه، ثمَّ أمر الكافر بالإيمان، ولم يخلق له إيمانًا، فأمره بالإيمان إيَّاه قهرٌ محضٌ وعدم خلقه لإيمانه قهرٌ محضٌ، وإدخاله النار حيث خلق له الكفر بسبب الكفر قهرٌ محضٌ؛ لأنَّه قهَّار، فصفة القهر اقتضت ذلك، وخلق المؤمن وخلق له إيمانًا، وخلق الطائع وخلق له طاعة، ولم يكن للطائع والمؤمن في ذلك منَّة، وأضاف العمل إليه تكرُّمًا محضًا، ولم تكن طاعته إلَّا خلق الله، وأسكنه الجنَّة بمحض الرحمة والفضل؛ لأنَّه الرحمن الرحيم الغفور الودود، أما ترى كيف جعل الآدميَّ ذا مالٍ فقال: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد:11] فالأموال والمملوك مِلكه ومُلكه، فقياسك أنَّ هذا كيف ولِم؟ وأنَّ هذا يكون ظلمًا لضيق وعائك وقصور فهمك؛ إذ(7) لم ينكشف لك سرُّ ذلك، وتفتيش أمر الله تعالى على الخلق جلَّ أمره سبحانه عن القياس، وعظم أن يحيط بحقيقته أفهام الناس، وما اشتبه على الخلق مِن سرِّ القدر فمنع الخلق عن الخوض فيه لموضع إشكاله، وانكشف للعلماء الراسخين بإطلاع إيَّاهم منحةً منه سبحانه وتعالى، ثمَّ اعلم أنَّه لا يكون منك فعل إلَّا بحركة جارحتك، وجارحتك(8) لا تتحرَّك إلَّا بإرادة تنشأ مِنَ القلب، فلولا إرادة القلب ما تحرَّكت الجارحة حركة مخصوصة في أمرٍ مخصوصٍ ومحلٍّ مخصوصٍ، ولكانت الجارحة كالجماد، فما صار الفعل فعلًا إلَّا بإرادة القلب، والقلب أمير الجوارح، فجارحتك جماد لولا قلبك، ونسبة قلبك إلى الله كنسبة جارحتك إلى قلبك، فلولا إحداث الإرادة في القلب وخلق الله إيَّاها لكان القلب أيضًا جمادًا، فصارت الجارحة ذا فعل بالقلب، وصار القلب ذا إرادة بالله، فالله خلق الإرادة في القلب وأحدثها، فيكون الفعل بإرادة القلب، وتكون إرادة القلب بالله تعالى فيكون الفعل إذًا بالله تعالى، فنقول: كيف يضاف إليَّ ضمان المتلفات وأرش الجنايات وتقام فيَّ الحدود؟، يقال لك: الفعل مِنَ الله خلقًا ومنك كسبًا؛ لأنَّ الله تعالى خلق عالم الحكمة ودبَّره بالأسباب والآلات والوسائط والأدوات، وخلق كلَّ شيءٍ وأضاف كلَّ شيءٍ إلى شيء، والكلُّ منه وبه فلا تجعل الشيء موجودًا على الاستقلال والاستبداد، ولا تكن قاصر النظر، فأيُّ فعلٍ لك؟ وأيُّ وجود لك إلَّا ما وهب لك واهب الوجود سبحانه وتعالى؟ ولا تعلم غير هذا حتَّى لا يكون ما تقوله وتتوهَّمه إشراكًا في الربوبيَّة، والله يتولَّى الصالحين.
          وفي الباب حديث أبي موسى الأشعريِّ، ومضى بيانه في (باب: لا تحلفوا بآبائكم) مِن (كتاب الأيمان والنذور).
          وفي الباب حديث ابن عبَّاسٍ، ومضى بيانه في (باب: وفد عبد القيس) مِن (كتاب المغازي).
          وفي الباب حديث عائشة وابن عمر، ومضى شرحه في (باب: عذاب المصوِّرين يوم القيامة) مِن (كتاب اللِّباس).


[1] زيد في (غ): (قدرناه).
[2] في (غ): (فيه).
[3] في (غ): (لجزاء).
[4] في (غ): (خيرًا).
[5] في (غ): (قلت).
[6] في (أ): (نفعل).
[7] في (غ): (إذا).
[8] (وجارحتك): ليس في (غ).