مقاصد التنقيح إلى شرح الصحيح

باب قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}

          ░2▒ (بَابُ قَوْلِه تَعَالَى: {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ} [الإسراء:110])
          أي: قل يا محمَّد لِمن لا يعرف الرحمن وينكر الدعوة به: قولوا: يا أَلله، أو قولوا: يا رحمان، فإنَّ المعنى فيهما واحدٌ.
          وقوله: ({أَيًّا مَّا} [الإسراء:110]) {أيًّا} أداة / شرطٍ، و{مَا} زائدة مؤكِّدة عند الأكثرين؛ ليكون عوضًا عمَّا يقع(1) مِنَ الإضافة؛ يعني: أيَّ ما تدعو(2) به ممَّا يليق به مِن أوصافه فقد أصبتم، فإنَّ له الأسماء الحسنى؛ وهي تسعةٌ وتسعون اسمًا، كما سبق في بابه مِن (كتاب الدعوات)، قيل: أصل «{اللهَ}» (لاها) بالسريانيَّة معرَّبٌ(3)، وقيل: عربيٌّ وُضِع لذاته سبحانه وتعالى كالعَلَم له؛ لأنَّه يوصف ولا يوصف به، ولأنَّه لا بدَّ له مِن اسمٍ تجري عليه صفاته، ولا يصلح له غيره، فتعيَّن أن يكون هو اسمه، ولأنَّه لو كان وصفًا لم يكن قولنا: «لا إله إلَّا الله» توحيدًا؛ كمثل: لا إله إلَّا الرحيم، فإنَّه لا يمنع الشركة، قال القاضي البيضاويُّ: والحقُّ أنَّه وصفٌ في أصله؛ لأنَّ ذاته مِن حيث هو _بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غير حقيقي_ غير معقولٍ للبشر، فلا يمكنه وضع اللَّفظ له، ولا الإشارة إليه بإطلاق اللَّفظ عليه، قال الطيبيُّ: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الواضع إن كان الله تعالى فظاهر، وإن كان غيره فيكفي في الوضع تعقله بوجهٍ قائمٍ، قال: لكنَّه لمَّا غلب عليه بحيث لا يُستَعمَل في غيره، وصار كالعَلَم(4) ؛ أجري مجراه في إجراء الأوصاف عليه، وامتناع الوصف به، وعدم تطرُّق احتمال الشركة إليه، ومعناه: المُستحِقُّ للعبادة، وأصله: أَلِهَ إلهة وألوهة؛ بمعنى: عبد عبادة وعبودة(5)، أو مِن أَلِهَ؛ إذا تحيَّر؛ لأنَّ العقول تتحيَّر في معرفته.
          وأمَّا ({الرَّحْمَنَ}) فهو اسمٌ بُنِي للمبالغة مِن رحم؛ كالغضبان مِن غضب، و(الرحمة) في اللُّغة: رقَّة قلبٍ وانعطافٌ يقتضي التفضيل والإحسان على مَن رقَّ له، وأسماء الله تعالى وصفاته(6) إنَّما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي تكون انفعالات، فرحمة الله على العباد إمَّا إرادة إنعام عليهم ودفع الضرِّ عنهم، فيكون {الرَّحْمَنَ} مِن صفات الذات، أو نفس الإنعام والدفع فيعود إلى صفات الأفعال، وهو أبلغ مِن (الرحيم) لزيادة بنائه(7)، وحظُّ العارف منهما أن يتوجَّه بكلِّيَّته إلى جناب قدسه، ويتوكَّل عليه، ويلتجئ فيما يعنُّ له، ويشغل سرَّه بذكره، والاستبداد(8) به عن غيره؛ لِما فهم منهما أنَّه المنعم الحقيقيُّ، الوليُّ للنعم كلِّها عاجلها وآجلها، ويرحم على عباد الله؛ فيعاون المظلوم، ويصرف الظالم عن ظلمه بالطريق الأحسن، وينبِّه الغافل، وينظر إلى العاصي بعين الرحمة دون الإزراء، ويجتهد في إزالة المنكر وإزاحته على أحسن ما يستطيعه، ويسعى في سدِّ خلَّة المحتاجين بقدر وسْعِه وطاقته، قال عبد الله بن المبارك: «الرحمن» هو الذي إذا سئل أعطى، و«الرحيم» هو الذي إذا لم يُسأَل غضب.


[1] في (أ) و(غ): (منع).
[2] في (غ): (تدعوه).
[3] في (غ): (فعرب).
[4] في (أ): (كالغلم).
[5] في (غ): (وعبودية).
[6] في (غ): (وصفاته تعالى).
[7] في (أ): (بتائه).
[8] في (غ): (والاستمداد).