مقاصد التنقيح إلى شرح الصحيح

حديث: إنما الأعمال بالنيات

          1- قوله: قول رسول الله صلعم : (إنَّما الأعمال بالنِّيَّات) قال الإمام محي الدِّين النَّوويُّ ☼ : أجمع المسلمون على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده وصحَّة روايته.
          وقال الشَّافعيُّ ☺: هو ثلث الإسلام، وقد وقع هذا الحديث، ههنا مختصرًا وهو طويل مشهور، قد ذكره البخاريُّ في سبعة مواضع في (صحيحه)، فذكره هنا، ثمَّ في (الإيمان)، و(العتق)، و(الهجرة)، و(النِّكاح)، و(النُّذور)، و(ترك الحيل).
          واتَّفق أهل العربيَّة والأصول على أنَّ (إنَّما) موضوعة للحصر تُثبتُ المذكور وتنفي ما سواه، فالتَّقدير: إنَّ الأعمال تُحسَب إذا كانت بنيَّة، ولا تُحسَب إذا كانت بلا نيَّة.
          وفيه دلالة على أنَّ الطَّهارة وهي الوضوء والغسل والتَّيمُّم والصَّلاة والزَّكاة والصَّوم والحجُّ والاعتكاف لا تصحُّ إلَّا بنيَّة، والإجماع على أنَّ إزالة النَّجاسة لا تفتقر إليها؛ لأنَّها مِنَ باب التُّروك.
          وتدخل(1) النِّيَّة في الطَّلاق والعتاق والقذف، ومعنى دخولها أنَّها إذا قارنت كناية؛ صارت كالصَّريح، وإن أتى بصريح الطَّلاق ونوى طلقتين أو ثلاثًا؛ وقع ما نوى، وإن نوى بالصَّريح غير مقتضاه؛ لا يُقبَل منه في الظَّاهر، ولكن ديَّن فيما بينه وبين الله تعالى.
          قوله ╕: (وإنَّما لكلِّ امرئ).
          وفي رواية: <وإنَّما لامرئ ما نوى> هو إشارة إلى أنَّ تعيين المنويِّ شرطٌ، فلو كانت على إنسان صلاة مقضيَّة؛ لا تكفيه نيَّة الصَّلاة الفائتة، بل يشترط أن ينوي كونها ظهرًا أو غيرها، ولولا الكلام الثَّاني _وهو (إنَّما لكلِّ امرئ ما نوى)_؛ لأوهم الأوَّل صحَّة النِّيَّة بلا تعيين.
          قال الرَّاغب: (النِّيَّة) تكون مصدرًا واسمًا من «نويتُ» وهي توجُّه القلب نحو العمل، وقال القاضي البيضاويُّ: النِّيَّة عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض مِن جلب نفع أو دفع ضرٍّ حالًا أو مآلًا، والشَّرع خصَّصها بالإرادة المتوجِّهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله تعالى وامتثالًا لحكمه.
          والنِّيَّة في الحديث محمولة على المعنى اللُّغويِّ؛ ليحسن تطبيقه لما بعده، وتقسيمه بقوله: «فمن كانت هجرته...» إلى آخره؛ فإنَّه تفصيل لِمَا أجمله، واستنباطٌ للمقصود عمَّا أصله.
          وقال الطَّيبيُّ: كلُّ واحد مِنَ الأعمال والنِّيَّات جمع محلَّى بلام الاستغراق، فإمَّا أن يُحملا على عرف اللُّغة فيكون الاستغراق حقيقيًّا، وإمَّا أن يُحملا على عرف الشَّرع، وحينئذ إمَّا أن يُراد بـ(الأعمال) الواجبات والمندوبات والمباحات، وبالنِّيَّات الإخلاص / والرِّياء، أو أن يُراد بـ(الأعمال) الواجبات، وما لا يصحُّ إلَّا بالنِّيَّة؛ كالطَّهارة والصَّلاة والصِّيام، ولا سبيل إلى الأوَّل؛ أي: اللُّغويُّ؛ لأنَّه صلوات الله وسلامه عليه ما بُعِثَ إلَّا لبيان الشَّرع، فكيف يتصدَّى لما لا جدوى له فيه؟
          على أنَّ (إنَّما) إنَّما تُستعمَل في ردِّ من عنده حكم مشوب بخطأ وصواب، ومن كان عارفًا باللُّغات لا يخطئ في استعمال اللُّغة حتَّى يردَّ حكمه إلى الصَّواب بـ(إنَّما) لا سيَّما تكراره في الحديث، فإنَّه يدلُّ على إثبات أمر خطير في الشَّرع، فحينئذ يُحمَل قوله: (إنَّما الأعمال بالنِّيَّات) على ما اتَّفقت عليه الفقهاء من أصحابنا؛ أي: ما الأعمال محسوبة بشيء من الأشياء كالشُّروع فيها والتَّلبُّس بها إلَّا بالنِّيَّات، وما خلا عنها لم يُعتَدَّ بها.
          ويُحمَل قوله: (وَإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى...) إلى آخره، على ما تثمره(2) النِّيَّات مِن القبول والرَّدِّ والثَّواب والعقاب وغير ذلك، ففهم مِن الأوَّل: أنَّ الأعمال لا تكون محسوبة ولا مسقطة للقضاء إلَّا إذ كانت مقرونة بالنِّيَّات، ومِنَ الثَّاني: أنَّ النِّيَّات إنَّما تكون معتدَّة ومقبولة إذا كانت مقرونة بالإخلاص مُبعَدةً عن الرِّياء، فالأوَّل قصر المسند إليه في المسند، والثَّاني عكسه، ويقرب منهما الصَّلاة في الأرض المغصوبة، فإنَّها مسقطة للقضاء، لكنَّ إيقاعها فيها حرام يستحقُّ به العقاب.
          قال الفقهاء: إنَّ الفرائض وغيرها من الواجبات إذا أُتِيَ بها على وجهها الكامل؛ ترتَّب عليها شيأان؛ سقوط الفرض عنه، وحصول الثَّواب، فإذا أدَّاها في أرض مغصوبة؛ حصل الأوَّل دون الثَّاني.
          فقوله ╕: (إنَّما لكلِّ امرئ ما نوى) دلَّ على أنَّ الأعمال تُحتسَب بحسب النِّيَّة إن كانت خالصة لله تعالى؛ فهي لله تعالى، وإن كانت للدُّنيا؛ فهي لذا، وإن كانت لنظر الخلق؛ فكذلك.
          قال بعض العارفين: النِّيَّة جمع الهمِّ في تنفيذ العمل للمعمول له، وألَّا يسنح في السِّرِّ ذكر غيره، وبعضهم قال: نيَّة العوامِّ في طلب الأغراض مع نسيان الفضل، ونيَّة الجاهل التَّحصُّن عن سوء القضاء ونزول البلاء، ونيَّة أهل النِّفاق التَّزيُّن عند الله وعند النَّاس، ونيَّة العلماء إقامة الطَّاعة لحرمة ناصبها لا لحرمتها، ونيَّة أهل التَّصوُّف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من الطَّاعات، ونيَّة أهل الحقيقة ربوبيَّة فولَّدت(3) عبوديَّة.
          قوله ╕ في غير هذه الرِّواية: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ)؛ أي: مَن قصد بهجرته وجه الله تعالى وقع / أجره على الله، ومَن قصد بها دنيا أو امرأة؛ فهي حظُّه، ولا نصيب له مِن ثوابها في الآخرة.
          وسبب ذكر المرأة مع الدُّنيا ما رُوِيَ أنَّ رجلًا هاجر ليتزوَّج امرأة يُقال لها: أمُّ قيس فتزوَّجها، وكان يُقال له: مهاجر أمِّ قيس، فنبَّه صلعم أصحابه وحذَّرهم عن مثل صنيعه.
          والمراد بالهجرة؛ الهجرة المعروفة في عهد النَّبيِّ صلعم؛ لقوله: «لا هجرة بعد الفتح»، ومعلوم أنَّ هذه الهجرة لا تقتضي إلَّا الإخلاص؛ لأنَّ الهجرة إلى الدُّنيا وإلى المرأة لا تقتضيان النِّيَّة الَّتي في العبادة مثلًا.
          وفي تكرير لفظة: (إلى الله ورسوله) في الشَّرط والجزاء تعظيم لمعنى تلك الهجرة وتفخيمٌ لشأنها؛ أي: هي الهجرة الكاملة الَّتي تستحقُّ أن تُسمَّى(4) هجرةً، وأنَّ ما سواها ليست بهجرة، ولم يكن كذلك إلَّا أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى.
          وعطف قوله: (أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا) على (دُنْيَا يُصِيبُهَا) وهي مشتملة على مالها وجمالها وما يتعلَّق بالشَّهوات تخصيصًا بعد التَّعميم؛ لتدلَّ على أنَّ النِّساء أعظمها ضرًّا وأكثرها تبعة؛ كقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء} الآية [آل عمران:14] جعلهنَّ عين الشَّهوات حيث بيَّن الشَّهوات بها.
          وأصل الهجرة مفارقة الأوطان والأهل، قيل: الهجرة أنواع:
          الأوَّل: الهجرة إلى الحبشة عندما آذى الكفَّار الصَّحابة.
          الثَّانية: الهجرة من مكَّة إلى المدينة(5).
          الثَّالثة: هجرة القبائل إلى النَّبيِّ صلعم لتعلُّم الشَّرائع، ثمَّ يرجعون إلى المواطن ويعلِّمون قومهم.
          الرَّابعة: هجرة مَن أسلم مِن أهل مكَّة ليأتي إلى النَّبيِّ صلعم ثمَّ يرجع إلى مكَّة.
          الخامسة: هجرة(6) ما نهى الله عنه.
          ومعنى الحديث وحكمه ثابت متناول للجميع، غير أنَّ حكاية أمِّ قيس تقتضي أنَّ المراد بالحديث الهجرة مِن مكَّة إلى المدينة، والعبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب.
          و(دنيا) مقصورة غير منوَّنة؛ لأنَّها (فُعلَى)، وسُمِّيَت (دنيا) لدنوِّها، والجمع (دنى)؛ مثل: (الكبرى) و(الكبر).
          وإنَّما أورد الإمام أبو عبد الله البخاريُّ هذا الحديث قبل الشُّروع في أبواب الكتاب إيذانًا بأنَّ هذا المصنَّف منويٌّ فيه الإخلاص لله تعالى، ومجنَّب عن الرِّياء والسُّمعة، فلا جرم تقبُّل الله منه، وجعله علمًا مِن أعلام الدِّين، ولذلك قال بعض العلماء: ينبغي لمن صنَّف كتابًا أن يبدأ فيه بهذا الحديث؛ تنبيهًا للطَّالب على تصحيح النِّيَّة، والله المسؤول أن يجعلني مِنَ المهتدين، وأن يمدَّني بالتَّوفيق مِنَ ابتدائه إلى النِّهاية.


[1] في (غ): (ويدخل).
[2] في (غ): (يثمره).
[3] في هامش (غ): (ط: تولت).
[4] في (غ): (يسمَّى).
[5] في (غ): (مدينة)، وكذا في الموضع اللاحق.
[6] في (غ): (الهجرة).