عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الطيب بعد رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة
  
              

          ░143▒ (ص) بابُ الطِّيبِ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَالْحَلْقِ قَبْلَ الإِفَاضَةِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ استعمالِ الطِّيبِ بعد رمي جمرة العقبةِ وبعد الحلق قبلَ / الإفاضة؛ أي: قبل طواف الزيارةِ؛ وهو طواف الرُّكن، وإِنَّما لم يُشِرْ إلى الحكم في ذلك في الترجمة لأجلِ الخلافِ فيه، قال ابنُ المنذر: اختلف العلماءُ فيما أُبِيحَ للحاجِّ بعد رمي جمرة العقبة قبلَ الطواف بالبيت؛ فرويَ عنِ ابن عَبَّاسٍ وابن الزُّبَير وعائشةَ أنَّهُ يحلُّ له كلُّ شيء إلَّا النِّساءَ، وهو قول سالمٍ وطاوُوسٍ والنخعيِّ، وإليه ذهب أبو حنيفةَ والشَّافِعِيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور، واحتجُّوا فيه بحديث الباب، ورويَ عن عمرَ وابنِه أنَّهُ يحلُّ له كلُّ شيء إلَّا النساءَ والطِّيبَ، وقال مالك: يحلُّ له كلُّ شيء إلَّا النساءَ والصيدَ.
          وفي «المدوَّنة»: أكره لمَن رمى جمرةَ العقبة أن يتطيَّبَ حَتَّى يفيضَ، فإن فعلَ فلا شيءَ عليه.
          قُلْت: مذهبُ عروةَ بنِ الزُّبَير وجماعةٍ مِنَ السلف: أنَّهُ لا يحلُّ للحاجِّ اللِّباسُ والطِّيبُ يوم النحر وإن رمى جمرةَ العقبة وحلق وذبحَ حَتَّى تحلَّ له النساء، ولا تحلُّ له النساءُ حَتَّى يطوف طوافَ الزيارة، واحتجُّوا في ذلك بما رواه الطَّحَاويُّ: حَدَّثَنَا يحيى بن عثمان قال: حَدَّثَنَا عبد الله بن يوسف قال: حَدَّثَنَا ابن لهيعة عن أبي الأسودِ، عن عروة، عن أمِّ قيس بنت مِحْصَن قالت: دخل عليَّ عكاشةُ بن مِحْصَن وآخرُ في منًى مساءَ يومِ الأضحى، فنزعا ثيابَهما وتركا الطِّيبَ، فقُلْت: ما لكما؟ فقالا: إنَّ رسولَ الله صلعم قال لنا: «مَن لم يفضِ إلى البيتِ مِن عشيَّة هذه؛ فليَدَعِ الثِّيابَ والطِّيبَ»، وقال عَلْقَمَةُ وسالمٌ وطاوُوسٌ وعُبَيدُ الله بنُ الحسن وخارجةُ بنُ زيد وإبراهيمُ النَّخَعِيُّ وأبو حنيفةَ وأبو يوسفَ ومُحَمَّدٌ والشَّافِعِيُّ وأحمدُ، _في الصحيح_ وأبو ثورٍ وإسحاق: إذا رمى المُحرِمُ جمرةَ العقبةِ ثُمَّ حلق؛ حلَّ له كلُّ شيء كان محظورًا بالإحرام إلَّا النساءَ.
          واختلفوا في حكمِ الطِّيب؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه والشَّافِعِيُّ وأصحابه وأحمد في رواية: [حكمُ الطِّيبِ حكمُ اللِّباس، فيحلُّ كما يحلُّ اللِّباس، وقال مالكٌ وأحمدُ في روايةٍ]: حكمُ الطِّيبِ حكمُ الجماعِ، فلا يحلُّ له حَتَّى يحلُّ الجماعُ، واحتجَّ أبو حنيفة ومَن معه بحديث الباب، وقال صاحبُ «التوضيح»: واحتجَّ الطَّحَاويُّ لأصحابِه بحديث عائشة مرفوعًا: «إذا رميتُم وحلقتُم؛ فقد حَلَّ لكم الطيبُ والثِّيابُ وكلُّ شيء إلَّا النساءَ»، وفيه الحَجَّاج بن أرطاةَ، وبحديث الحسنِ البصريِّ عن ابنِ عَبَّاس _ولم يسمع منه_ قال: (إذا رميتُم الجمرةَ؛ فقد حلَّ لكم كلُّ شيء إلَّا النساءَ، فقال له رجلٌ: والطِّيب؟ فقال: أَمَّا أنا؛ فقد رأيت رسولَ الله صلعم يضمخ رأسَه بالسِّكِّ، أفطيبٌ هو؟).
          قُلْت: سبحان الله! آثارُ التعصُّب الباطلِ لا تخلو عنهم، فلِمَ لم يذكرْ صاحب «التوضيح» حديثَ الباب في احتجاج الطَّحَاويِّ لأبي حنيفة وأصحابه؟ فَإِنَّهُ احتجَّ لهم أوَّلًا بحديث الباب، وأخرجه مِن طرقٍ، واحتجَّ أيضًا بالحديث الذي ذكره صاحب «التوضيح» وصدَّر كلامه به، وغمز بقوله: وفيه الحَجَّاج بن أرطاة، فما لِلحَجَّاج بن أرطاة وَقَدِ احتجَّت به الأربعةُ، والبَيْهَقيُّ أيضًا أخرج حديثه؟ وأَمَّا حديثُ ابن عَبَّاسٍ؛ فَإِنَّهُ طعن فيه بأنَّ الحسنَ البصريَّ [لم يسمع مِنِ ابنِ عَبَّاس، فَإِنَّهُ ليس بالحسنِ البصريِّ]، وإِنَّما هو الحسن العُرَنيُّ، وقد روي عن يحيى بن مَعِين أنَّ الحسنَ العُرَنيَّ [لم يسمع مِنِ ابن عَبَّاس، وغيرُه قالَ: سمِعَ منه، فالمُثبِتُ أولى مِن النافي على ما عُرِفَ، وقد ذهل صاحب «التوضيح»، ولم يفرِّق بين البصريِّ والعُرَنيِّ]، ومع هذا فحديثُ ابنِ عَبَّاس هذا أخرجه النَّسائيُّ وابنُ ماجه أيضًا، وأَمَّا الجوابُ عن حديث أمِّ قيسٍ، أخت عكاشة بن مِحْصَن؛ فَإِنَّهُ لا يعارِضُ حديثَ عائشة؛ لأنَّ حديثَ عائشةَ فيه مِنَ الصِّحَّة ما ليس في حديث أمِّ قيس، وفيه ابنُ لهيعة، وهو ضعيفٌ، وحديثه هذا شاذٌّ.