عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الزيارة يوم النحر
  
              

          ░129▒ (ص) بابُ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان زيارةِ الحاجِّ البيتَ لأجل الطوافِ به يومَ النحر، والمرادُ به طوافُ الزيارة الذي هو ركنٌ مِن أركان الحجِّ، ويُسمَّى طوافَ الإفاضةِ أيضًا.
          (ص) وَقَالَ أَبُو الزُّبَيرِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاس ♥ : أَخَّرَ النَّبِيُّ صلعم الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ.
          (ش) (أَبُو الزُّبَيرِ) بِضَمِّ الزَّاي وفتح الباء المُوَحَّدةِ وسكون الياء آخرَ الحروف، واسمه مُحَمَّد بن مسلمِ بن تَدْرُس؛ بلفظِ المخاطَبِ مِنَ المضارعِ، مِنَ الدِّراسة، مرَّ في (باب مَن شكى إمامه).
          وهذا تعليقٌ وصله التِّرْمِذيُّ عن مُحَمَّدِ بنِ بشَّارٍ: حدَّثنا عبد الرَّحْمَن بن مَهديٍّ: حَدَّثَنَا سفيان عنِ أبي الزُّبَير عن ابن عَبَّاسٍ وعائشة: (أن النَّبِيَّ صلعم أخَّر طوافَ الزيارة إلى اللَّيل)، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وأخرجه أبو داودَ أيضًا عن مُحَمَّد بن بشَّارٍ، وأخرجه النَّسائيُّ عن مُحَمَّد بن المُثَنَّى عن ابنِ مَهديٍّ، وأخرجه ابن ماجه عن بَكْر بن خلف، وقال البَيْهَقيُّ في «سننه»: وأبو الزُّبَيرِ سمِعَ مِنَ ابن عَبَّاس، وفي سماعه عن عائشةَ نظرٌ، قاله البُخَاريُّ.
          فَإِنْ قُلْتَ: هذا يعارِضُ ما رواه ابنُ عمرَ وجابرٌ وعائشةُ ♥ عن النَّبِيِّ صلعم أنَّهُ طافَ يومَ / النَّحرِ نهارًا، والحديثان عن ابنِ عمرَ وجابرٍ عند مُسلِمٍ.
          أَمَّا حديثُ ابنِ عمرَ فَإِنَّهُ أخرجَه مِن طريقِ عبد الرَّزَّاقِ عن عُبَيدِ اللهِ بنِ عُمَر عن نافعٍ عنِ ابن عمر: أنَّ رسولَ الله صلعم أفاضَ يومَ النَّحرِ، ثُمَّ رجع فصلَّى الظهر بمنًى، ورواه أبو داود والنَّسائيُّ أيضًا.
          وأَمَّا حديثُ جابرٍ فَإِنَّهُ أخرجه مِن رواية جعفرَ بنِ مُحَمَّد عن جابرٍ في الحديث الطويل، وفيه: (ثُمَّ ركِبَ رسولُ الله صلعم ، فأفاض إلى البيتِ، فصلَّى بِمَكَّةَ الظهر...) الحديث.
          وأَمَّا حديثُ عائشةَ فأخرجه أبو داودَ مِن طريق ابن إسحاقَ عن عبد الرَّحْمَن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: (أفاض رسول الله صلعم مِن آخر يومِه حين صلَّى الظهر، ثُمَّ رجع إلى منًى، فمكث بها ليالي التشريق).
          فهذه الأحاديث تدلُّ على أنَّهُ طافَ طواف الزيارة يومَ النحر، وحديث الباب يدلُّ على أنَّهُ أخَّره إلى اللَّيل.
          قُلْتُ: أجيب عن هذا بوجوهٍ:
          الأَوَّل: أنَّ الأحاديثَ الثلاثةَ تُحمَلُ على اليومِ الأَوَّل، وحديثُ الباب يُحمَل على بقيَّة الأيَّام.
          الوجه الثاني: أنَّ حديث الباب يحمل على أنَّهُ أخَّر ذلك إلى ما بعدَ الزوال، فكان معناه: أخَّر طوافَ الزيارة إلى العشيِّ، وأَمَّا الحملُ على ما بعدَ الغروب؛ فبعيدٌ جدًّا؛ لما ثبت في الأحاديث الصَّحيحة المشهورة مِن أنَّهُ صلعم طاف يومَ النَّحرِ نهارًا، وشرب من سقاية زمزم.
          الوجه الثالث: ما ذكره ابن حِبَّان مِن أنَّهُ صلعم رمى جمرةَ العقبةَ ونحرَ، ثُمَّ تطيَّب للزيارة، ثُمَّ أفاضَ وطافَ بالبيتِ طوافَ الزيارة، ثُمَّ رجع إلى منًى فصلَّى الظهرَ بها والعصر والمغرب والعشاء، ورقد رقدةً بها، ثُمَّ ركِبَ إلى البيت ثانيًا، وطاف به طوافًا آخر باللَّيل.
          فَإِنْ قُلْتَ: روى أحمدُ في «مسنده» عن عائشة وابن عمر: أنَّ رسول الله صلعم زار ليلًا؟
          قُلْت: الظاهر أنَّ المراد منه طوافُ الوداع أو طوافُ زيارة محضة، وقد ورد حديث رواه البَيْهَقيُّ أنَّ رسولَ الله صلعم كان يزور البيت كلَّ ليلةٍ مِن ليالي منًى.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما تقول في الحديث الذي أخرجه البَيْهَقيُّ عن عائشة: أنَّ رسولَ الله صلعم أذِنَ لأصحابه، فزاروا البيت يومَ النحر ظهرَه، وزارَ رسول الله صلعم مع نسائه ليلًا؟
          قُلْت: هذا حديثٌ غريبٌ جدًّا، فلا يعارض الأحاديث المذكورة المشهورة.
          (ص) وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى.
          (ش) (أَبُو حَسَّانٍ) اسمه مسلم بن عبد الله العدويُّ البِصْريُّ، المشهور بـ(الأجرد)، ويقال له: الأعرج أيضًا.
          وهذا تعليقٌ وصله البَيْهَقيُّ عن أبي الحسن بن عَبدَان: أنبأنا أحمدُ بن عُبَيدٍ الصَّفَّار: حَدَّثَنَا العُمَريُّ: حَدَّثَنَا ابنُ عَرعَرة قال: دفعَ إلينا معاذُ بنُ هشام كتابًا، قال: سمعته مِن أبي ولم يقرأه، قال: فكان فيه: عن قتادةَ، عن أبي حسَّانَ، عن ابن عَبَّاس ☻: أنَّ نَبِيَّ الله صلعم كان يزور البيتَ كلَّ ليلة ما دام بمنًى، قال: وما رأيتُ أحدًا واطَأَه عليه، ورواه الطَّبرانيُّ أيضًا من طريق قتادةَ عنه، وقال ابن المدينيِّ في «العلل»: روى قتادةُ حديثًا غريبًا لا نحفظه عن أحدٍ مِن أصحاب قتادة إلَّا من حديث هشام _فنسختُه مِن كتاب ابنه معاذِ بن هشامٍ، ولم أسمعه منه_ عن أبيه عن قتادةَ: حدَّثني أبو حسَّانَ عن ابن عَبَّاس: أنَّ النَّبِيَّ صلعم كانَ يزور البيت كلَّ ليلة ما أقام بمنًى، وقال الأثرمُ: قلت لأحمدَ: تحفظ عن قتادة؟ فذكر هذا الحديثَ، فقال: كتبوه مِن «كتاب معاذ».
          قُلْت: فإنَّ هنا إنسانًا يزعم أنَّهُ سمِعَه مِن معاذ، فأنكر ذلك، وأشار الأثرمُ بذلك إلى إبراهيمَ بنِ مُحَمَّد بن عرعرةَ، فإنَّ مِن طريقه أخرجه الطبرانيُّ بهذا الإسناد.
          قُلْتُ: ولرواية أبي حسَّانَ هذه شاهدٌ مُرسَلٌ أخرجه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن ابن عُيَينة: (حَدَّثَنَا ابن طاوُوس عن أبيه: أنَّ النَّبِيَّ صلعم كان يفيض كلَّ ليلة) يعني: ليالي منًى.