عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب رمي الجمار
  
              

          ░134▒ (ص) بابُ رَمْيِ الْجِمَارِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان وقتِ رمي الجمار، وإِنَّما قدًَّرنا هكذا؛ لأنَّ حديثَ الباب لا يدلُّ إلَّا على بيان وقتِ رمي الجمار.
          (ص) وَقَالَ جَابِرٌ ☺ : رَمَى النَّبِيُّ صلعم يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ.
          (ش) مطابقتُه للترجمة تُؤخَذُ مِنَ الوجه الذي ذكرناه الآن.
          وهذا مُعلَّق وصلَه مسلمٌ، وقال: حَدَّثَنَا أبو بَكْر ابن أبي شَيْبَةَ قال: حَدَّثَنَا أبو خالدٍ الأحمر وابن إدريس عن ابن جُرَيْج، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ قال: (رمى رسول الله صلعم الجمرةَ يومَ النَّحر ضحًى، وأَمَّا بعدُ؛ فإذا زالت الشمسُ)، ورواه أبو داودَ مِن رواية يحيى بن سعيد، والتِّرْمِذيُّ عن عليِّ بن خشرم: حَدَّثَنَا عيسى بن يونسَ عن ابن جُرَيْج، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ قال: (كان النَّبِيُّ صلعم يرمي يوم النَّحر ضحًى، وأَمَّا بعدَ ذلك؛ فبَعْدَ زوالِ الشمس)، وأخرجه النَّسائيُّ مِن رواية عبد الله بن إدريس.
          قوله: (ضُحًى) الرواية فيه بالتنوين، على أنَّهُ مصروفٌ، وهو مذهب النُّحاة مِن أهل البصرة، سواءٌ قصد التعريف أو التنكير، وقال الجَوْهَريُّ: تقول: لقيتُه ضُحًى، وضُحَى إذا أردت به ضحى يومِك؛ لم تنوِّنه، وأَمَّا وقتُ الضُّحى بالضمِّ والقصرِ؛ فقال الجَوْهَريُّ: «ضحوةُ النهار» بعد طلوع الشمس، ثُمَّ بعدَه الضُّحى؛ وهو حين تشرق الشمس، مقصورٌ، يؤنَّث ويذكَّر، فمَن أنَّث ذهب إلى أنَّها جمعُ «ضَحْوةٍ»، ومَن ذكَّرَ ذهبَ إلى أنَّهُ اسمٌ على «فُعَلٍ»؛ مثل: «صُرَدٍ» و«نُغَر»، وهو ظرفٌ غيرُ مُتمَكِّن؛ مثل: «سحر»، قال: ثُمَّ بعدَه الضُّحَاء _ممدودٌ مُذكَّرٌ_ وهو عند ارتفاع النَّهار الأعلى.
          قوله: (وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ) يعني: رمى الجمار أيَّام التشريق.
          ويُستفَادُ مِنَ الحديث حُكْمَان:
          الأَوَّل: أنَّ وقتَ رمي جمرةِ العقبة يومَ النَّحرِ ضحًى؛ اقتداءً به صلعم ، وقال الرافعيُّ: (المُستحَبُّ أن يرميَ بعدَ طلوعِ الشمس، ثُمَّ يأتي بباقي الأعمال، فيقعُ الطوافُ في ضَحوةِ النَّهار) انتهى، وقال شيخُنا زينُ الدِّين ☼ : وما قاله الرافعيُّ مخالفٌ للحديثِ، على مقتضى تفسير أهل اللُّغة: أنَّ ضحوةَ النهار مُتقدِّمة على الضُّحى، وهذا وقتُ الاختيار، وأَمَّا أَوَّلُ وقت الجواز؛ فهو بعد طلوع الشمس، وهذا مذهبنا؛ لِما روى أبو داودَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنِ النَّبِيِّ صلعم أنَّهُ قال: «أي بنيَّ؛ لا ترموا الجمرةَ حَتَّى تطلعَ الشمس»، وأَمَّا آخره؛ فإلى غروب الشمس، وقال الشَّافِعِيُّ: يجوز الرمي بعد النصف الأخير مِنَ اللَّيل، وفي «شرح التِّرْمِذيِّ» لشيخنا: وأَمَّا آخر وقتِ رمي جمرة العقبة؛ فاختلف فيه كلام الرافعيِّ، فجزمَ في «الشرح الصغير»: أنَّهُ يمتدُّ إلى الزوال، قال: والمذكورُ في «النهاية» جزمًا امتدادُه إلى الغروب، وحكى وجهين في امتدادِه إلى الفجر؛ أصحُّهما: أنَّهُ لا يمتدُّ، وكذا صحَّحه النَّوَوِيُّ في «الروضة»، وفي «التوضيح»: رمي جمرةِ العقبة مِن أسباب التحلُّل عندنا، وليس بركنٍ، خلافًا لعبد الملك المالكيِّ؛ حيث قال: مَن خرجت عنه أيَّام منًى ولم يرمِ جمرةَ العقبة؛ بطل حجُّه، فإن ذكر بعدَ غروب شمس يومِ النحر؛ فعليه دمٌ، وإن تذكَّر بعدُ؛ فعليه بدنة، وقال ابنُ وهبٍ: لا شيء عليه ما دامت أيَّام منًى، وفي «المحيط»: أوقات رمي جمرةِ العقبة ثلاثةٌ؛ مسنونٌ مَا بعدَ طلوع الشمسِ، ومباحٌ ما بعد زوالها إلى غروبها، ومكروهٌ؛ وهو الرمي إلى اللَّيل، ولو لم تُرْمَ [حَتَّى دخلَ اللَّيلُ؛ فعليه أن يرميَها في اللَّيل، ولا شيءَ عليه، وعن أبي يوسف _وهو قول الثَّوْريِّ_: لا يرمي في اللَّيل، وعليه دم، ولو لم يرمِ] في يومِ النَّحرِ حَتَّى أصبح مِنَ الغد؛ رماها، وعليه دمٌ عند أبي حنيفة، خلافًا لهما.
          الحكم الثاني: هو أنَّ الرَّميَ في أيَّام التشريق / محلُّه بعدَ زوال الشَّمس، وهو كذلك، وقد اتَّفق عليه الأئِمَّةُ الأربعةُ، وخالفَ أبو حنيفةَ في اليومِ الثالثِ منها، فقال: يجوزُ الرميُ فيه قبل الزوال استحسانًا، وقال: إن رمى في اليومِ الأَوَّل أو الثاني قبلَ الزوال؛ أعاد، وفي الثالث يجزئه، وقال عطاءٌ وطاوُوسٌ: يجوز في الثلاثة قبلَ الزوال، واتَّفق مالكٌ وأبو حنيفة والثَّوْريُّ والشَّافِعِيُّ وأبو ثور: أنَّهُ إذا مضَت أيَّامُ التشريق، وغابتِ الشمسُ مِن آخرها؛ فقد فات الرمي، ويُجبَر ذلك بالدم.