عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ركوب البدن
  
              

          ░103▒ (ص) بابُ رُكُوبِ الْبُدْنِ.
          [لِقَوْلِهِ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}].
          (ش) أي: هذا بابٌ في جوازِ ركوب البُدْنِ، واستدلَّ على ذلك بقوله تعالى: ({وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم...}) إلى آخره، وهاتان الآيتان مذكورتان بتمامِهما في رواية كريمةَ، وفي رواية أبي ذرٍّ وأبي الوقت المذكور منهما مِن قوله: <{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم} إلى قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}> ثُمَّ المذكور بعد: <{جُنُوبُهَا} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}>.
          وموضعُ الاستدلال في جواز ركوب البُدْنِ في قوله: ({لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}) يعني: مِنَ الركوب والحَلْبِ؛ لِما روى ابن أبي حاتم وغيره بإسناد جَيِّد عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} مَن شاءَ رَكِبَ، ومن شاءَ حَلَبَ، وفي «تفسير النَّسَفِيِّ» في قوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}: مَن احتاج إلى ظهرِها رَكِبَ، ومَنِ احتاجَ إلى لبنها شرِبَ، وقيل: في البُدْنِ خيرٌ؛ وهو النفعُ في الدنيا والأجرُ في الآخرة، ومِن شأن الحاجِّ أن يحرص على شيء فيه خيرٌ ومنافعُ، وعن بعض السلف: أنَّهُ لم يملك إلَّا تسعةَ دنانيرَ، فاشترى بها بَدَنَةً، فقيل له في ذلك، فقالَ: «إنِّي سمعتُ ربِّي يقول: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}».
          قوله: ({وَالْبُدْنَ}) بِضَمِّ الباء، جمع (بَدَنةٍ) سُمِّيت لِعِظَمِ بَدَنِها، وهي الإبلُ العِظامُ الضِّخامُ الأجسام، وهي مِنَ الإبل خاصَّةً، وقُرِئَ: {وَالْبُدُنَ} بضمَّتين؛ كـ(ثُمُرٍ) في جمعِ (ثَمَرة)، وعن ابنِ أبي إسحاق: بالضَّمَّتين وتشديد النون، على لفظ الوقفِ، وقرئ: {البُدْنَ} بالرَّفع والنصب؛ كما في قوله: {وَالْقَمَرَُ قَدَّرْنَاهُ}[يس:39].
          قوله: ({مِن شَعَائِرِ اللهِ}) أي: مِن أعلام الشَّريعة التي شَرَعها، وأضافها إلى اسمه تعظيمًا لها.
          قوله: ({لَكُمْ فِيهَا}) أي: في البُدْنِ.
          قوله: ({فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا}) عن ابن عَبَّاس ☻: ذكرُ اسمِ الله عليها أن تقول عند النحر: الله أكبر، لا إله إلَّا الله، والله أكبر، اللَّهمَّ منك وإليك.
          قوله: ({صَوَافَّ}) أي: قائماتٍ قد صَفَفْنَ أيديَهنَّ وأرجُلَهُنَّ، وقيل: أي: قيامًا على ثلاثةِ قوائمَ، قد صَفَّت رِجْلَيها وإحدى يَدَيها ويدُها اليسرى معقولةٌ، وقُرِئَ: {صَوَافِنَ} مِن صُفُونِ الفَرَس؛ وهو أن يقومَ على ثلاثٍ وينصبَ الرابعةَ على طرف سُنْبكِهِ؛ لأنَّ البَدَنَةَ تعقل إحدى يديها، فتقوم على ثلاثٍ، وقرئ: {صوافيَ} أي: خوالصَ لوجهِ الله تعالى، وعن عَمْرو بن عُبَيد: {صَوافًّا} بالتنوين عوضًا عَن حرفِ الإطلاق عندَ الوقف، وعن بعضهم: {صوافْ} نحو مَثَلِ العرب: (أعطِ القوسَ باريْها) بسكون الياء.
          قوله: ({فَإِذَا وَجَبَتْ}) قال الزَّمَخْشَريُّ: وجوبُ الجُنُوب: وقوعها على الأرض، مِن وَجَبَ الحائط وجوبًا؛ إذا سقط، ووجبتِ الشمسُ جِبَةً: غربت، والمعنى: فإذا وَجَبَتْ / جُنُوبُها، وسكنت بسائِسُها؛ حُلَّ الأكلُ منها والإطعامُ، وسيأتي تفسير ({القَانِعَ والمُعتَرَّ}).
          قوله: ({كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ}) هذا منٌّ مِنَ اللهِ تعالى على عباده؛ بأن سخَّرَ لهم البُدْنَ مثل التسخير الذي رأَوا وعلموا، يأخذونها منقادةً للآخذ طَيِّعَةً، فيعقلونها، ويحبسونها صافَّة قوائمَها، ثُمَّ يطعنون في لُبَّاتها، ولولا تسخيرُ اللهِ؛ لم تُطِقْ.
          قوله: ({لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا}) وذلك أنَّ أهل الجاهليَّة كانوا إذا نحروا البُدْنَ لطَّخوا حيطانَ الكعبةِ بدمائها، فهمَّ المسلمون مثل ذلك، فأنزل الله تعالى: {لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا...} أي: لن يصلَ إلى الله لحومُها المُتصدَّقُ بها ولا الدماءُ المهراقةُ بالنَّحر، ({وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}) والمعنى: لن يرضيَ المضحُّون والمقرَّبون ربَّهم إلَّا بمراعاةِ النِّيَّةِ والإخلاص، والاحتفاظ بشروط التَّقوى.
          قوله: ({كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ}) أي: سخَّر البُدْنَ، وكرَّر تذكير النعمة بالتَّسخير، ثُمَّ قال: ({لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}) يعني: على هدايته إيَّاكم لإعلامِ دينِه ومناسكِ حجِّه؛ بأن تُكبِّروا وتُهلِّلوا، وضُمِّنَ (التَّكبيرُ) معنى (الشكرِ)، وعُدِّي تعديتَه.
          قوله: ({وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}) الخطاب للنبيِّ صلعم ، أمره بأن يبشِّرَ المحسنين الذين يعبدون الله كأنَّهم يرونَه، فإن لم يرَوه؛ فَإِنَّهُ يراهم بقبوله، وقيل: بالجنَّة.
          (ص) قال مجاهِدٌ: سُمِّيَتِ الْبُدْنَ لِبُدْنِها.
          (ش) بِضَمِّ الباء وسكون الدال في روايةِ بعضهم، وفي رواية الأكثرين بفتح الباء وفتح الدال، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <لبدانتها> أي: لضخامتها، وأخرج عبد بن حُمَيد من طريق ابن أبي نَجِيح عن مجاهد قال: إِنَّما سُمِّيت البدنَ مِن قِبَلِ السمانة، وقال الجَوْهَريُّ: البدنة: ناقةٌ تُنحَرُ بِمَكَّةَ، سُمِّيَت بذلك لأنَّهم كانوا يسمِّنونها، والبَدْنُ: التسمينُ والاكتناز، وبدُنَ؛ إذا ضخُمَ، وبدَّن _بالتَّشديد_ إذا أسنَّ، وقد ذكرنا عن قريب أنَّ البدنَ مِنَ الإبل خاصَّة، وقال الداوديُّ: قيل: إنَّ البدنة تكون مِنَ البقر، وهذا نقل عن الخليل.
          (ص) والْقانِعُ: السَّائلُ، والْمُعْتَرُّ: الَّذِي يعْتَرُّ بالبُدْنِ مِنْ غَنِيٍّ أو فَقِيرٍ.
          (ش) هذا مِن كلام البُخَاريِّ، وكذا قال ابنُ عَبَّاس وسعيدُ بن المُسَيَِّبِ والحسن البِصْريُّ، (الْقانِعُ) السَّائلُ، [و(المُعْتَرُّ) الذي يتعرَّض ولا يسأل، وقال مالك: أحسنُ ما سمعت فيه أنَّ «القانعَ» الفقيرُ، و«المعترُّ» الدَّائرُ، وقيل: «القانعُ» السائل الذي لا] يقنَعُ بالقليل، [وفي «الموعَب» قال أبو زيدٍ: «القانعُ» هو المتعرِّض لِما في أيدي النَّاس، وهو ذمٌّ له، وهو الطَّمعُ]، وقال صاحب «العين»: «القُنوع» الذلَّة للمسألِة، وقال إبراهيم: قنع إليه: مالَ وخضَعَ، وهو السائل، و«المعترُّ» الذي يتعرَّض ولا يسأل، وقال الزجَّاج: «القانع» الذي يقنع بما يعطاه، وقيل: الذي يقنع باليسير، وقال قُطرُب: كان الحسنُ يقول: هو السائل الذي يقنع بما أوتيه، ويصير القانع مِن معنى القناعة والرِّضا، وقال الطوسيُّ: قنَعَ يقنَعُ قنوعًا؛ إذا سأل وتكفَّف، وقنِع يقنَعُ قناعةً؛ إذا رضي.
          قُلْت: الأَوَّل مِن (بابِ فتَح يفتَح)، والثاني مِن (باب علِم يعلَم)، قال إسماعيل: وقالوا: رجل قُنْعَان _بِضَمِّ القاف_ يرضى باليسير، وقال صاحب «العين»: «القانعُ» خادم القوم وأجيرُهم، وقرأ الحسن: {والمُعتَري}، ومعناه مثل {المُعْتَرِّ}، يقال: اعترَّه واعتراه وعرَّه وعَرَاه؛ إذا تعرَّض لِما عنده أو طلبَه، وأخرج ابنُ أبي حاتمٍ مِن طريق سفيان بن عُيَيْنَةَ عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهدٍ قال: («القانع» هو الطامع، وقال مَرَّةً: هو السائل)، ومِن طريق الثَّوْريِّ عن فُرات عن سعيد بن جُبَير: («المعترُّ» الذي يعتريك؛ يزورك ولا يسألك)، ومن طريق ابن جُرَيْج عن مجاهد: (الْمُعْتَرُّ: الذي يعْتَرُّ بالبُدْنِ مِنْ غَنِيٍّ أو فَقِيرٍ) يعني: يطيفُ بها متعرِّضًا لها، وهذا الذي ذكره البُخَاريُّ مُعلَّقًا.
          (ص) وَ(شَعَائِرُ) : اسْتِعْظَامُ البُدْنِ واسْتِحْسَانُهَا.
          (ش) أشارَ به إلى ما في الآية المذكورة مِن شعائر الله، وأخرجه عبدُ بنُ حُمَيدٍ من طريق ورقاءَ عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهدٍ في قوله: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ}[الحج:32] قال: (اسْتِعْظَامُ البُدْنِ: اسْتِحْسَانُهَا) واستسمانها، ورواه ابن أبي شَيْبَةَ مِن وجه آخر عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهدٍ، عن ابن عَبَّاس نحوه.
          (ص) والْعَتِيقُ: عِتْقُهُ مِنَ الجَبَابِرَةِ.
          (ش) أشارَ به إلى ما ذكرَ قبلَ الآيتين المذكورتَين مِن قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج:29] وفسَّرَ (الْعَتِيق) / بقوله: (عِتْقُهُ مِنَ الجَبَابِرَةِ)، وعن قتادة: (أُعتق مِنَ الجبابرة، فكم جبَّارٍ سارَ إليه ليهدمه فمنعه الله!)، وعن مجاهد: (أُعتقَ مِنَ الغرق)، وأخرجَ عبدُ بنُ حُميد من طريق سفيانَ عن ابنِ أبي نَجِيحٍ عن مجاهد قال: (إِنَّما سُمِّيَ العتيق لأنَّه أعتق مِنَ الجبابرة)، وقيل: سُمِّيَ العتيقَ لِقِدَمِه، وقيل: لأنَّه لم يُملَك قطُّ.
          (ص) ويُقَالُ: {وجَبَتْ}[الحج:36] سَقَطَتْ إلَى الأرْضِ، ومِنْهُ: وجَبَتِ الشَّمْسُ.
          (ش) أشار به إلى تفسيرِ ما ذكر في الآيةِ المذكورة مِن قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}، وهكذا رواه ابن أبي حاتم مِن طريق مقسم عن ابن عَبَّاس قالَ: {فَإِذَا وَجَبَتْ} أي: سقطت، وكذا أخرجه الطَّبَريُّ مِن طريقَين عن مجاهد.
          قوله: (وَمِنْهُ) أي: ومِنَ معنى المذكور قولهم: (وجَبَتِ الشَّمْسُ) إذا سقَطَت للغروب.