عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر}
  
              

          ░2▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[الحج:27].
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذكر قول اللَّه ╡ : ({يَأْتُوكَ...}) إِلَى آخِرِهِ، وإِنَّما ذكر هذه الآية مترجمًا بها؛ تَنْبِيهًا عَلَى أنَّ اشتراط الراحلة في وجوب الحجِّ لا ينافي جواز الحجِّ ماشيًا، مع القدرة على الراحلة وعدم القدرة؛ لأنَّ الآية اشتملت على المُشاة والرُّكبان؛ وذلك أنَّ سببَ نزول الآية أنَّهم كانوا لا يركبون، على ما روى الطبريُّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بن ذَرٍّ قال: قال مجاهد: كانوا لا يركبون، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فأمرهم بالزاد، ورخَّص لهم في الركوب والمتجَر.
          وأَوَّل الآية: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ} الآية، قال المفسِّرون: لمَّا فرغ إِبْرَاهِيم ◙ مِن بناء البيت؛ أمره اللَّه تَعَالَى أن يؤذِّن، قال إِبْرَاهِيم: يا ربِّ وما يبلغ أذاني؟ قال: أذِّن وعَلَيَّ البلاغ، فقام في المَقام _وقيل: على جبل أبي قُبَيس_ وأدخل إصْبعَيه في أُذنَيه، وأقبل بوجهه يمينًا وشمالًا، وشرقًا وغربًا، وقال: يا أيُّها الناس؛ إنَّ الله يدعوكم إلى الحجِّ إلى بيته الحرام، فأسمَعَ مَن في أصلاب / الرجال وأرحام النساء ممَّن سبق في علم اللَّه أن يحجَّ، فأجابوا: لبَّيكَ اللَّهمَّ لبَّيكَ، فمَن أجاب يومئذٍ بعددٍ؛ حجَّ على قَدْرِه، قيل: أَوَّلُ مَن أجابه أَهْلُ الْيَمَنِ، فهم أكثرُ الناس حجًّا، وهذا قول الْجُمْهُور، وقال قوم: المأمورُ بالتأذين مُحَمَّدٌ صلعم ، أمر أن يفعل ذلك في حجَّة الْوَدَاعِ، والتوفيق بين القولين: أنَّ النَّبِيَّ صلعم إِنَّما أمره اللَّه بذلك إحياءً لسُنَّة إِبْرَاهِيم ◙.
          قُلْت: {يَأْتُوكَ} على القول الأَوَّل خطابٌ لإِبْرَاهِيم ◙ ، وعلى القول الثَّانِي لنبيِّنا مُحَمَّد صلعم ، وهو مجزومٌ؛ لأنَّه جواب الأمر، وَهُو قَولُه: {أَذِّنَ}.
          قوله: ({رِجَالًا}) نصب على الحال مِنَ الضمير الَّذِي في {يَأْتُوكَ}، وهو جمع (راجِل)، كذا قاله أَبُو عُبَيدة في كتاب «المَجاز»، وهو نحو: (صِحاب وصاحِب)، وعَنِ ابْنِ عَبَّاس: {رِجَالًا}: رُجَّالة، وقرأ عِكْرِمَة مشدَّدًا، وقرأ مجاهد مخفَّفًا، وقَالَ الجَوْهَريُّ: جمع «الراجِل» «رَجْل» مثل: «صاحِب وصَحْب»، و«رُجَّالة»، و«رُجَّال»، و«الأراجيل» جمع الجمع.
          قوله: ({وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}) مِنَ الضُّمور؛ وهو الهُزال، وقال أبو اللَّيْث: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} يعني: الإبل وغيره، فلا يدخل بعيرٌ ولا غيره الحرم إلَّا وقد ضَمِر مِنْ طُول الطريق، و{ضَامِرٍ} بغير هاءٍ يُستَعمَل للمذكَّر والمؤنَّث، وقال النَّسَفِيُّ في «تَفْسِيره»: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} حالٌ معطوفة على حالٍ، كأنَّه قيل: رِجالًا ورُكبانًا، والضامر: البعير المهزول.
          قوله: ({يَأْتِينَ}) صفةٌ لـ{كُلِّ ضَامِرٍ}؛ لأنَّ {كُلِّ ضَامِرٍ} في معنى الجمع، أراد النوق.
          قوله: ({مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}) أي: مِن كلِّ طريقٍ بعيد، [ومنه قيل: بئرٌ عَميقة، وقرأ ابْن مَسْعُود: {مَعِيق} فقال: بئرٌ بعيدة] القَعْر.
          قوله: ({لِيَشْهَدُوا}) أي: ليحضروا ({مَنَافِعَ لَهُم}) هي التجارة، وقيل: منافع الآخرة، وقيل: منافع الدارين جَمِيعًا، وتمام الآية {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج:28].
          قوله: ({وَيَذْكُرُوا}) أي: وليذكروا {اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} يعني: يَوْم النَّحْرِ ويومين بعده، وقال مجاهد وقَتَادَة: «الْمَعْلُومات» الأيَّام العشر، و«المعدودات» أيَّام التشريق.
          قوله: ({عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}) متعلِّق بـ{يَذْكُرُوا} والمعنى: ويذكروا اسم اللَّه على ذبح أنعامهم، وَالْمُرَاد بالذكر التسمية، وهي قوله: بسم اللهِ واللهُ أكبر، اللَّهمَّ منك وإليك عن فلان، وكان الكفَّار يدعون ويذبحون على أسماء أصنامهم، فبيَّن الله تَعَالَى أنَّ الواجب الذبح على اسمه، و{بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} الإبل والبقر والغنم.
          قوله: ({فَكُلُوا مِنْهَا}) وهو أمر إباحة، وكان أهل الجاهليَّة لا يرون ولا يستحلُّون الأكل مِن ذبائحهم.
          قوله: ({وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ}) أي: الَّذِي اشتدَّ فقره، وقال أبو اللَّيْث: البائس الضرير [الزَّمن، والفقير الَّذِي ليس له شيء. وقال الزجَّاج: البائس] الَّذِي أصابه البؤس وهو الشدَّة، وما يتعلَّق بذلك مِنَ الفقه عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
          (ص) {فِجَاجًا}[الأنبياء:31]: الطَّريقُ الوَاسِعَةُ.
          (ش) قد جرت عادةُ البُخَاريِّ أنَّهُ إذا وقعت لفظةٌ فِي الْحَدِيثِ أو في الآية؛ يذكرُ نظيرها مِمَّا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ أو القُرْآن، وذكر هنا ({فِجَاجًا}) يريد به ما وَقَعَ في قوله تعالى: {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} ثُمَّ فسَّر (الفِجاج) بقوله: (الطَّرِيقُ الوَاسِعَةُ) وهكذا فسَّرها الفَرَّاء في «المعاني» في (سورة نوح ◙ )، وهو جمع (فَجٍّ)، قَالَ ابن سِيدَه: «الفجُّ» الطريق الواسع في جبل، أو في قُبُلِ جبل، وهو أوسع مِنَ الشِّعْب، وقال ثعلب: هو ما انخفض مِنَ الطرق، وجُمِعَ على «فِجاج» و«أفِجَّة»؛ الأخيرة نادرة، وقال صاحب «المنتهى»: فِجاج الأرض: نواحيها، وفي «التهذيب»: {مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج:27] أي: واسع غامض.