عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا}
  
              

          ░46▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ ╡ : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[إِبْرَاهِيم:35-37].
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذكر قَوْلِ اللهِ ╡ : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}... إِلَى آخِرِهِ، إِنَّما لم يذكر البُخَاريُّ في هذه التَّرْجَمَة حديثًا، فقال بعضهم: كأنَّه أشار إلى حَدِيث ابْنِ عَبَّاس في قصَّة إسكان إِبْرَاهِيم ◙ هاجرَ وابنَها في مكان مَكَّة، وقَالَ الكَرْمَانِيُّ: لعلَّ غرضَه منه الإشعارُ بأنَّه لم يجد حديثًا بشرطه مناسبًا لها، أو ترجم الأبواب أوَّلًا، ثُمَّ ألحق بكلِّ بابٍ كلَّ ما اتَّفق، ولم يساعده الزمان بإلحاق حديثٍ بهَذَا الْبَاب، وهكذا حكمُ كلِّ ترجمة هي مثلُها.
          قُلْت: الوجه الأَوَّلُ مِنَ الوجهين اللَّذين ذكرهما الكَرْمَانِيُّ بعيدٌ، وأبعدُ منه ما ذكره بعضهم؛ لأنَّ الإشارة لا تكون إلَّا للحاضر، فالَّذِي يطَّلع على هذه التَّرْجَمَة كيف يقول: هذه إشارة إلى حَدِيث ابْنِ عَبَّاس، وهو لم يطَّلع عليه ولا عَرَفه؟ والأقربُ في هذا الوجهُ الثَّانِي مِنَ الَّذِي قاله الكَرْمَانِيُّ، فافهم.
          قوله: ({وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}) أي: اذكر إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ.
          ({هَذَا الْبَلَدَ}) أي: مَكَّة، ({آمِنًا}) من القتل والغارة، ويقال: من الجذام والبرص.
          ({وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ}) أي: احفظني وبنِيَّ ({أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}) وذلك أنَّ إِبْرَاهِيم ◙ لمَّا فرغ من بناء البيت سأل ربَّه أن يجعل البلد آمنًا، وخاف على بنيه؛ لأنَّه رأى قومًا يعبدون الأصنام والأوثان، فسأل أن يُجنِّبهم عن عبادتها.
          قوله: ({أَن نَّعْبُدَ}) أي: بأن نعبد؛ أي: عبادة الأوثان؛ لأنَّ {أَنْ} مصدريَّة.
          قوله: ({رَبِّ}) يعني: يا ربِّ؛ ({إِنَّهُنَّ}) أي: الأصنام ({أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ}) لأنَّهنَّ كانت سببًا لضلالهم، فنُسِبَ الضلالُ إليهنَّ، وإن لم يكن منهنَّ عمل على الحقيقة، وقيل: كان الإضلالُ منهنَّ لأنَّ الشَّيْطَان كان يدخل في جوف الأصنام ويتكلَّم.
          قُلْت: هذا أَيْضًا ليس مِنهنَّ في الحقيقة.
          قوله: ({فَمَن تَبِعَنِي}) يعني: مَن آمَنَ بي ({فَإِنَّهُ مِنِّي}) أي: على دينِي، ويقال: فهو من أمَّتي، ({وَمَنْ عَصَانِي}) فلم يطعني، ولم يوحِّدك، ({فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}) إن تاب أو تُوَفِّقَه حَتَّى يُسْلِم.
          قوله: ({رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي}) أي: أنزلتُ بعض ذرِّيَّتي؛ وهو إِسْمَاعِيل ◙ ({بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}) وهو مَكَّة، وَهُو قَولُه: ({عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}) يعني: الَّذِي فيه حُرِّم القتال والاصطياد، وأن يدخل فيه أحد بغير إحرام.
          قوله: ({رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}) يعني: وفِّقهم ليقيموها، وإِنَّما ذكر الصلاة؛ لأنَّها أولى العبادات وأفضلها. /
          قوله: ({فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ}) أي: قلوبًا، وهو جمع (فؤاد) ({تَهْوِي إِلَيْهِمْ}) يعني: تشتاق إليهم، وتسرع إليهم، وقال سَعِيد بن جبير: لو قال: (أفئدة الناس) يعني: بغير {من}، لحجَّت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنَّه خصَّ.
          قوله: ({وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ}) يعني: من الثمرات الَّتِي تكون في بلاد الريف حتَّى يجيئهم الناس.
          قوله: ({لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}) أي: لكي يشكروا فيما يرزقهم.