عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: إذا رمى بعد ما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيا أو جاهلا
  
              

          ░130▒ (ص) بابٌ إِذَا رَمَى بَعْدَمَا أَمْسَى، أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ، نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَرُ فيه: إِذَا رَمَى الحاجُّ جَمْرَةَ العقبة بعدَما أمسى؛ أي: بعدما دخل في المساء؛ يعني: إذا رماها ليلًا _ويطلَقُ (المَسَاءُ) على ما بعدَ الزوال أيضًا، على ما نذكره إن شاء الله تعالى_ أو حلق يومَ النَّحر قبلَ أن يذبَحَ هديه.
          قوله: (نَاسِيًا) نصبٌ على الحال، و(أَوْ جَاهِلًا) كذلك عطفٌ عليه، وجواب (إِذَا) محذوف؛ تقديره: لا حرجَ عليه، ولم يذكره اكتفاءً بما ذكر في الحديث، أو سكت عنه إشارةً إلى أنَّ فيه خلافًا.
          وهذه الترجمة تشتمل على حكَمين:
          أحدهما: رمي جمرةِ العقبة باللَّيل.
          والآخر: الحلقُ قبلَ الذَّبح، وكلٌّ منهما إمَّا ناسيًا أو جاهلًا بحكمه.
          أَمَّا الأَوَّل فقد أجمعَ العلماءُ أنَّ مَن رمى جمرةَ العقبة مِن طلوع الشمس إلى الزوال يومَ النَّحر؛ فقد أصاب سُنَّتَها ووقتها المختارَ، وأجمعوا أنَّ مَن رماها يومَ النحر قبل المغيب؛ فقد رماها في وقتٍ لها وإن لم يكن ذلك مستحسنًا له.
          واختلفوا فيمَن أخَّر رميَها حَتَّى غربت الشمس مِن يوم النحر؛ فذكر ابن القاسم أنَّ مالكًا كان مَرَّةً يقول: عليه دمٌ، ومرَّة لا يرى عليه شيئًا، وقال الثَّوْريُّ: مَن أخَّرها عامدًا إلى اللَّيل؛ فعليه دم، وقال أبو حنيفة وأصحابه والشَّافِعِيُّ: يرميها مِنَ الغدِ، ولا شيءَ عليه، وقد أساء، سواءٌ تركها عامدًا أو ناسيًا لا شيءَ عليه، وقال ابن قُدَامة: إن أخَّرَ جمرةَ العقبة إلى اللَّيل؛ لا يرميها حَتَّى تزولَ الشمس مِنَ الغد، وبه قال أبو حنيفة وإسحاقُ، وقال الشَّافِعِيُّ ومُحَمَّد وابن المنذر ويعقوبُ: يرمي ليلًا؛ لقوله: «ولا حرجَ»، ولأبي حنيفة: أنَّ ابنَ عمر قالَ: مَن فاته الرمي حَتَّى تغيبَ الشمسُ؛ فلا يرمي حَتَّى تزولَ الشمسُ مِنَ الغد، وإذا رمى جمرةَ العقبة قبلَ طلوع الفجر يوم النحر؛ فأكثرُ العلماء على أنَّهُ لا يجزئ، وعليه الإعادةُ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابِه ومالكٍ وأبي ثور وأحْمَدَ ابن حَنْبَل وإسحاقَ، وقال عطاءُ بنُ أبي رَبَاح وابنُ أبي مليكة وعِكرمةُ بن خالد وجماعةُ المَكِّيِّين: يجزئه، ولا إعادة على مَن فعله، وقال الشَّافِعِيُّ وأصحابُه: إذا كان الرميُ بعدَ نصف اللَّيل جازَ، فإن رماها [بعدَ طلوع الفجر وقبلَ طلوع الشمس؛ فجائزٌ عند الأكثرين؛ منهم أبو حنيفة ومالكٌ والشَّافِعِيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وابنُ المنذر، وقال مجاهدٌ والثَّوْريُّ والنَّخعيُّ: لا يرميها إلَّا] بعدَ طلوعِ الشمس.
          وأَمَّا الثاني فإنَّ مَن حلق قبل أن يذبحَ؛ فجمهور العلماء على أنَّهُ لا شيءَ عليه، وكذلك قاله عطاءٌ وطاوُوسٌ وسعيدُ بن جبير وعِكرمةُ ومجاهدٌ والحسنُ وقتادةُ، وهو قول مالكٍ والأوزاعيِّ والثَّوْريِّ والشَّافِعِيِّ وأبي ثور وأحمدَ وإسحاقَ وداودَ ومُحَمَّدِ بن جَرير، وقالَ إبراهيمُ: مَن حلق قبلَ أن يذبح؛ أهراق دمًا، وقال أبو الشَّعْثَاء: عليه الفدية، وقال أبو حنيفة: عليه دمٌ، وإن كان قارنًا فدَمَان، وقال زُفَرُ: على القارن إذا حلق قبلَ الذبح ثلاثةُ دماء؛ دمٌ للقرانُ ودمان للحلق قبل النَّحر.
          واختلفوا فيمَن حلَقَ قبل أن يرميَ؛ فإنَّ مالكًا وأصحابَه اختلفوا في إيجاب الفدية، ورويَ عن ابن عَبَّاسٍ: أنَّهُ مَن قدَّم شيئًا أو أخَّره؛ فعليه دم، ولا يصحُّ ذاكَ عنهُ، وعن إبراهيم وجابرِ بن زيدٍ مثلُ قولِ مالكٍ في إيجاب الفدية على مَن حلق قبل أن يرمي، وهو قول الكوفيِّين، وقال الشَّافِعِيُّ وأبو ثور وأحمدُ وإسحاقُ وداودُ والطَّبَريُّ: لا شيءَ على مَن حلق قبل أن يرمي، ولا على مَن قدَّم شيئًا أو أخَّره ساهيًا مِمَّا يفعل يومَ النحر، وعن الحسن وطاوُوسٍ: لا شيء على مَن حلق قبل أن يرمي، مثل قولِ الشَّافِعِيِّ ومَن تابعه، وعن عطاءِ بنِ أبي رَبَاح: من قدَّم نسكًا قبل نسكٍ؛ فلا حرجَ، ورُويَ ذلك عن سعيد بن جُبَير وطاوُوسٍ ومجاهدٍ وعِكرمةَ وقتادةَ، وذكر ابنُ المنذر عن الشَّافِعِيِّ: [مَن حَلَقَ قبل أن يرمي أنَّ عليه دمًا، وزعمَ أنَّ ذلك حفظه عن الشَّافِعِيِّ، وهو خطأٌ عن الشَّافِعِيِّ]، والمشهور مِن مذهبه أنَّهُ لا شيءَ على مَن قدَّم أو أخَّر شيئًا مِن أعمال الحجِّ كلِّها إذا كان ساهيًا. /