عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب وجوب الحج وفضله
  
              

          ░1▒ (ص) ♫
بابُ وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ.
          (ش) أَي: هَذَا بَابٌ فِي بَيَانِ وجوب الحجِّ [وبيان فضله، قد ذكرنا أنَّ الكتاب يجمع الأبواب، فهذا هو شرعٌ في بيان أفعال الحجِّ]، وما يتعلَّق به بالأبواب، فذكر بابًا بابًا بحسب قصده بالتناسب، والبسملةُ مذكورةٌ فِي رِوَايَة أَبِي ذَرٍّ، وفِي رِوَايَة غيره لم يَذكُر، وكذا لم يذكر لفظ (الباب).
          (ص) {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عِمْرَان:97].
          (ش) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخ: <باب وجوب الحجِّ وفضله، وقوله تعالى: {وَلِله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}> وهذا أوجهُ، وأشار بذكر هذه الآية الكريمة أنَّ وجوب الحجِّ قد ثبت بهذه الآية، هذا عند الْجُمْهُور، وقيل: ثبت وجوبُه بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}[البقرة:196] والأَوَّل أظهر.
          وقد وردت الأحاديثُ المتعدِّدة بأنَّه أحدُ أركان الإِسْلَام ودعائمه وقواعده، وأجمع الْمُسْلِمُونَ على ذلك إجماعًا ضروريًّا، وقال الإمام أَحْمَد: حَدَّثَنَا يزيد بن هَارُون: حَدَّثَنَا الربيع بْن مُسْلِم القرشيُّ عن مُحَمَّد بن زياد، عن أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ قال: خطبنا رَسُول اللهِ صلعم فقال: «يا أيَّها النَّاس؛ قد فُرِضَ عليكم الحجُّ، فحُجُّوا» وقال رجل: أكلَّ عامٍ يا رَسُول اللهِ؟ فسكت حَتَّى قالها ثلاثًا، فقال رَسُول اللهِ صلعم : «لو قلتُ: نعم؛ لوجبت، ولَما استطعتم»، ثُمَّ قال: «ذروني ما تركتُكم؛ فإِنَّما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيءٍ فائتُوا منه ما استطعتم، / وإذا نهيتُكم عن شيءٍ فدعُوه» وَرَوَاهُ مُسْلِم، وفي روايته: «فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رَسُول اللهِ؛ أفي كلِّ عام؟...» الحديث، وعن أَحْمَد في روايةٍ عَنْ عَلِيٍّ ☺ قال: لمَّا نزلت: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قالوا: يا رَسُول اللهِ؛ في كلِّ عامِ؟... [الحديث، وفِي رِوَايَة ابْن مَاجَهْ عَن أَنَس بْن مَالِك قال: قالوا: يا رَسُول اللهِ؛ الحجُّ في كلِّ عامٍ]؟ [قال: «لو قُلْتُ: نعم؛ لوجب، ولو وجب لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها لَعُذِّبتم»، وفي «الصَّحِيحين» مِنْ حَدِيثِ جابر: أنَّ سُرَاقَة بْن مَالِك قال: يا رَسُول اللهِ] مُتعتُنا هذه لعامِنا أم للأبد؟ قال: «بل للأبد».
          قوله: ({حَجُّ الْبَيْتِ}) مرفوعٌ على الابتداء، وخبرُه مُقدَّمًا قولُه: ({وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ}) أي: ولله فرضٌ واجبٌ عَلَى النَّاسِ حجُّ الْبَيْتِ؛ لأنَّ اللَّامَ لامُ الإيجاب.
          قوله: ({مَنِ اسْتَطَاعَ}) بدل مِنَ {النَّاسِ} في محلِّ الجر، والتقدير: ولله على مَن استطاع مِنَ الناس حجُّ البيت، و(الاستطاعة) هي: الزاد والراحلة وتخلية الطريق، وعَن أَنَس عن النَّبِيِّ صلعم أنَّهُ قال: «السبيل: الزاد والراحلة» رَوَاهُ الْحَاكِم، ثُمَّ قال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وروى التِّرْمِذيُّ مِن حَدِيث ابْنِ عُمَرَ قال: قام رجل إلى النَّبِيِّ صلعم فقال: مَن الحاجُّ يا رَسُول اللهِ؟ قال: «الشَّعِث التَّفِل» فقام آخَرُ فقال: أيُّ الحجِّ أفضل يا رَسُول اللهِ؟ فقال: «العَجُّ والثَّجُّ» فقام آخَرُ فقال: ما السَّبيل يا رَسُول اللهِ؟ فقال: «الزاد والراحلة»، وقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِم: وقد رُويَ عَنِ ابْنِ عَبَّاس وَأَنَس والحسن ومجاهد وعطاء وسَعِيد بْن جبير والربيع بْن أَنَس وقَتَادَة نحوُ ذلك، وقد رَوَى ابن جَرِير عَنِ ابْنِ عَبَّاس في قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قال: مَن ملك ثلاث مئة درهم؛ فقد استطاع إليه سبيلًا، وعَنْ عِكْرِمَةَ مولاهُ قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} السبيل: الصحَّة، وعن الضَّحَّاك عَنِ ابْنِ عَبَّاس قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قال: الزاد والبعير.
          قوله: ({وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}) قَالَ ابْنُ عَبَّاس ومجاهدٌ وغيرُ واحد: أي: ومَن جحد فرضيَّة الحجِّ فقد كفر، واللَّه غنيٌّ عنه، وقيل: مَن لم يرجُ ثوابه، ولم يَخَفْ عقابَ تركه، وقيل: إذا أمكنه الحجُّ ولم يحجَّ حَتَّى مات، وروى ابن مَرْدويه مِنْ حَدِيثِ الحارث عَنْ عَلِيٍّ ☺ قال: قال رَسُول اللهِ صلعم : «مَن ملك زادًا وراحلة، ولم يحجَّ بيت اللهِ؛ فلا يضرُّه مات يهوديًّا أو نصرانيًّا؛ ذلك بأنَّ اللهَ تَعَالَى قال: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}...» إِلَى آخِرِ الآية، ورَوَاهُ التِّرْمِذيُّ أَيْضًا وقال: هذا حديثٌ غريب، وفي إسناده مقالٌ، وهلالٌ مجهولٌ _يعني: فِي رِوَايَة_ والحارثُ يُضعَّف فِي الْحَدِيثِ، وروى الإِسْمَاعِيليُّ الحافظ مِنْ حَدِيثِ عَبْد الرَّحْمَن بن غَنم سمع عُمَر بن الخَطَّاب ☺ يقول: مَن أطاق الحجَّ فلم يحجَّ؛ فسواءٌ عليه يهوديًّا مات أو نصرانيًّا، وهذا إسنادٌ صَحِيحٌ إلى عمر، قاله ابْن كَثِيرٍ في «تَفْسِيره».
          قوله: ({غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}) أي: لا ينفعُه إيمانُهم، ولا يضرُّه كفرُهم.