عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الخطبة أيام منى
  
              

          ░132▒ (ص) بابُ الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان مشروعيَّة الخُطبةِ أيَّام منًى، قيل: (أرادَ البُخَاريُّ بهذا الرَّدَّ على مَن زعم أنَّ يومَ النحر لا خطبةَ فيه للحاجِّ، وأنَّ المذكور في هذا الحديث مِن قبيل الوصايا العامَّة، لا على أنَّهُ مِن شعائر الحجِّ، فأرادَ البُخَاريُّ أن يبيِّن أنَّ الراويَ قد سمَّاها خطبةً كما سمَّى التي وقعت في عرفاتٍ خُطبةً، وقد اتَّفقوا في مشروعيَّة الخطبة بعرفاتٍ، فكأنَّه ألحق المُختَلَفَ فيه بالمُتَّفَقِ عليه) انتهى.
          قُلْت: أرادَ هذا القائلُ بهذا الرَّدَّ على الطَّحَاويِّ، فَإِنَّهُ قالَ: (الخطبةُ المذكورةُ ليست مِن مُتعلِّقات الحجِّ؛ لأنَّه لم يذكر فيها شيئًا مِن أمور الحجِّ، وإِنَّما ذكر فيها وصايا عامَّة، ولم ينقل أحدٌ أنَّهُ علَّمهم فيها شيئًا مِنَ الذي يتعلَّق بيومِ النحر، فعرفنا أنَّها لم تقصد لأجل الحجِّ) انتهى.
          قُلْت: ردُّ هذا القائلِ على الطَّحَاويِّ أو على غيره ممَّن قالَ مثلَ ما قال الطَّحَاويُّ مردودٌ عليه؛ وذلك لأنَّه لم يُذكَر شيءٌ أصلًا في الحديثِ المذكورِ / مِن أمور الحجِّ، وإِنَّما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره؛ لكثرة الجمع الذي اجتمع مِن أقاصي الدنيا، وهكذا قال ابن القصَّار أيضًا، ثُمَّ قال: فظنَّ الذي رآه أنَّهُ خطب.
          وقال بعضُهم _نصرةً للقائل المذكورِ_: وأجيب بأنَّه صلعم نبَّه في الخطبة المذكورة على تعظيم يومِ النَّحر، وعلى تعظيم شهر ذي الحجَّة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزمَ الصَّحابةُ ♥ بتسميتها خطبةً، فلا يُلتَفَتُ إلى تأويل غيرهم انتهى.
          قُلْت: ليتَ شعري، ما وجه هذا الذي ذكره أن يكون جوابًا؟ وتعظيمُ هذه الأشياء المذكورة ليس له دخلٌ في أمور الحجِّ، وتعظيم هذه الأشياء غيرُ مُقيَّدٍ بأوقات الحجِّ، بل يجب تعظيمها مطلقًا، وقوله: (وقد جزم الصحابة...) إلى آخره؛ دعوى بلا دليلٍ، على أنَّا نقول: إنَّ تسميتَهم للتبليغ المذكور خطبةً ليست على حقيقةِ الخطبةِ المعهودةِ المشتملة على أشياء شتَّى.
          وقال بعضُهم في الرَّدِّ على الطَّحَاويِّ في قوله: (ولم ينقل أحدٌ أنَّهُ علَّمهم شيئًا مِن أمور الحجِّ) بقوله: (وأَمَّا قول الطَّحَاويِّ: «إنَّه لم ينقل أحدٌ...» إلى آخره، لا ينفي وقوعَ ذلك أو شيء منه في نفس الأمر، بل قد ثبتَ في حديث عبد الله بن عَمْرو بن العاص: «أنَّهُ شهِدَ النَّبِيَّ صلعم يخطب يومَ النحر»، وذكر فيه السؤال عن تقديم بعضِ المناسك على بعض، فكيف ساغ للطَّحَاويِّ هذا النفيُ المطلقُ معَ روايته هو حديثَ عبد الله بن عَمْرو؟!) انتهى.
          قُلْت: كيفَ ساغَ لهذا القائل أن يحطَّ على الطَّحَاويِّ بفهمِه كلامَه على غيرِ أصله؟ فَإِنَّهُ لم ينف مطلقًا، وإِنَّما مرادُه نفيُ دلالة حديثِ ابن عَبَّاسٍ المذكور في هذا الباب على أنَّهُ خطبةٌ وقعت يوم النحر، ولا يلزم مِن هذا أن ينفيَ نفيًا مطلقًا، وتأييد ردِّه عليه بحديثِ عبد الله بن عَمْرو يؤيِّد ضعفَ ما فهمه مِن كلامه؛ لأنَّ حديثَ عبد الله بن عَمْرو ليسَ فيه ما يدلُّ صريحًا على لفظ: (خطب)، فإنَّ لفظ البُخَاريِّ ومسلمٍ: (وقف في حجَّة الوداعِ، فجعلوا يسألونه) وفي رواية أخرى لمسلمٍ: (وقف رسولُ الله صلعم على راحلته، فطفِقَ ناسٌ يسألونه)، وفي رواية التِّرْمِذيِّ: (أنَّ رجلًا سأل رسولَ الله صلعم ، فقال: حلقت قبل أن أذبح...) الحديث، وليسَ في شيء مِن هذه الألفاظِ ما يدلُّ على أنَّهُ خطبةٌ، وإِنَّما هو سؤالٌ وجوابٌ، وتعليمٌ وتعلُّمٌ، فلا يُسمَّى هذا خطبةً، وكذلك ليس في أحاديثٍ أخرى غير حديثِ عبد الله بن عَمْرو ما يدلُّ على أنَّهُ خطبةٌ.
          وروى أحمدُ في «مسنده» عن عليٍّ ☺ قالَ: (جاء رجلٌ، فقال: يا رسول الله؛ حلقت قبل أن أنحرَ...) الحديث، وروى النَّسائيُّ عن جابر: [(أنَّ رجلًا قالَ: يا رسول الله؛ ذبحت قبل أن أرمي...) الحديث، وروى ابن ماجه والبَيْهَقيُّ عن جابرٍ]أيضًا يقولُ: (قعد رسولُ الله صلعم بمنًى يومَ النَّحر للناس، فجاءه رجلٌ، فقال: يا رسولَ الله؛ إنِّي حلقتُ قبل أن أذبح...)، وروى الأئِمَّة السِّتَّةُ خلا التِّرْمِذيَّ عن ابنِ عَبَّاسٍ مِن طرقٍ، وليس فيها ما يدلُّ على الخطبة، فروى الشيخان والنَّسائيُّ مِن رواية ابن طاوُوسٍ عن أبيه عنِ ابن عَبَّاس: (أنَّ النَّبِيَّ صلعم قيل له في الذَّبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال: «لا حرج»)، وروى البُخَاريُّ وأصحابُ السُّنَن خلا التِّرْمِذيَّ مِن رواية عِكْرِمَةَ عن ابن عَبَّاسٍ قال: (كان النَّبِيَّ صلعم يُسأَل يوم النحر بمنًى...) الحديث، ورواه البُخَاريُّ والنَّسائيُّ من رواية منصورٍ عن عطاءٍ عن ابن عَبَّاسٍ قال: (سئل النَّبِيُّ صلعم عمَّن حلقِ...) الحديث، وروى البُخَاريُّ مِن رواية عطاء أيضًا عن ابن عَبَّاسٍ: (قال رجلٌ للنَّبيِّ صلعم : زرتُ قبل أن أرمي...) الحديث، فهذه كلُّها سؤالاتٌ وأجوبةٌ، وقد مضى الكلامُ في الباب الذي قبله ما يوضِّح ما ذكرناه هنا.