عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام}
  
              

          ░47▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المائدة:97].
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذكر قول الله تَعَالَى: {جَعَلَ اللهُ}... إِلَى آخِرِهِ، وَوَقَعَ في «شرح ابن بَطَّالٍ» بأنَّه ضمَّ الْبَاب السَّابِق إلى هذا وجعلهما واحدًا، فقال بعد قوله: ({لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[إِبْرَاهِيم:37]) : (وقول الله: {جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ}...) إِلَى آخِرِهِ، قال بعضهم: كأنَّه يشير إلى أنَّ الْمُرَاد بقوله: {قِيَامًا} أي: قوامًا، وأنَّها ما دامت موجودةً فالدين قائم.
          قُلْت: السِّرُّ في هذا والتحقيق أنَّهُ جعل هذه الآية الكريمة ترجمةً، وأشار بها إلى أمور:
          الأَوَّل: أشار فيه إلى أنَّ قِوام أمور الناس وانتعاش أمر دينهم ودنياهم بالكعبة المشرَّفة يدلُّ عليه قوله: ({قِيَامًا للنَّاسِ}) فإذا زالت الكعبة على يد ذي السُّوَيْقَتِين تَختلُّ أمورهم؛ فلذلك أورد حديث أَبِي هُرَيْرَةَ فيه مناسبة لهذا، فتقع به المطابقة بين الحديث والتَّرْجَمَة.
          والثَّانِي: أشار به إلى تعظيم الكعبة وتوقيرها، يدلُّ عليه قوله: ({الْبَيْتَ الْحَرَامَ}) حيث وصفها بالحرمة، فأورد حديث عَائِشَة ♦ فيه مناسبة لهذا، فتقع به المطابقة بين الحديث والتَّرْجَمَة، وذلك في قوله: «وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ».
          والثَّالِث: أشار به إلى أنَّ الكعبة لا تنقطع الزوَّار عنها؛ ولهذا تُحجُّ بعد خروج يأجوج ومأجوج الَّذِي يكون فيه من الفتن والشدائد ما لا يوصف؛ فلذلك أورد حديث أَبِي سَعِيد الخُدْريِّ فيه مناسبة لهذا؛ وَهُو قَولُه: «لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ»، ويدلُّ على هذا الوجه أَيْضًا: قوله: {قيامًا}، فتقع به المطابقة بين الحديث والتَّرْجَمَة.
          قوله: ({الْبَيْتَ الْحَرَامَ}) نصب على أنَّهُ عطف بيانٍ على جهة المدح، لا على التوضيح كما تجيء الصفة، كذلك قاله الزَّمَخْشَريُّ.
          قوله: ({قِيَامًا}) أي: عمادًا للناس في أمر دينهم ودنياهم، ونهوضًا إلى أغراضهم ومقاصدهم في معاشهم ومعادهم؛ لِما يتمُّ لهم من أمر حجِّهم، وعمرتهم، وتجارتهم، وأنواع منافعهم، وروي عَنْ عَطَاء بن أَبِي رَبَاحٍ: لو تركوها عامًا واحدًا لم يُنظَروا ولم يؤخَّروا، وقرأ ابن عامر: {قِيَمًا}، وقرأ الباقون: {قِيَامًا}، وأصله: قِوَامًا، ويقال: معنى {قِيَامًا}: معالمَ للحقِّ، وقال مقاتل: يعني: عَلَمًا لقِبلتهم يصلُّون إليها، وقال سَعِيد بن جبير: صلاحًا لدينهم.
          قوله: ({وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ}) وهو الشهر الَّذِي يؤدَّى فيه الحجُّ، وهو ذو الحجَّة؛ لأنَّ لاختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحجِّ فيه شأنًا عرفه الله، وقيل: عُنِي به جنس أشهر الحُرُم.
          قوله: ({وَالْهَدْيَ}) وهو ما يُهدَى به.
          قوله: ({وَالْقَلَائِدَ}) يعني: المقلَّدات أو ذات القلائد، والمعنى: جعل الله الشهر الحرام والهدي والقلائد أمنًا للنَّاس؛ لأنَّهم كانوا إذا توجَّهوا إلى مَكَّة، وقلَّدوا الهدي أمِنوا من العدوِّ؛ لأنَّ الحرب كانت قائمةً بين العرب إلَّا في الأشهر الحُرُم، فمن لَقَوه على هذه الحالة لم يتعرَّضوا له.
          قوله: ({ذَلِكَ}) إشارة إلى جعل البيت قيامًا للناس، أو إلى ما ذكر مِن حِفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره.
          قوله: ({وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}) أي: مِنَ السرِّ والعلانيَة.