عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج}
  
              

          ░33▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ]}[البقرة:197].
          (ش) أَي: هَذَا بَابٌ فِي بَيَانِ تَفْسِير قولِ اللَّه تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}، الكلام فيها على أنواع:
          الأَوَّل: في إعرابها:
          فقوله: ({الْحَجُّ}) مبتدأ، وقوله: ({أَشْهُرٌ}) خبره، وقوله: ({مَّعْلُومَاتٌ}) صفة (الأشهر)، ومِن شرط الخبر أن يصحَّ به الإخبار عن المبتدأ، فلا يصحَّ أن يخبر بـ(الأشهر) عن (الحجِّ) ؛ فلذلك قُدِّرَ فيه حذفٌ؛ تقديره: وقتُ الحج أشهرٌ معلومات، ويقال: تقديره: الحجُّ حجُّ أشهرٍ معلومات، فعلى الأَوَّل المقدَّر قبل المبتدأ، وعلى الثَّانِي قبل الخبر، والخبر وإن كان يصلح فيه تقديرُ كلمة (في) فلا يقال إلَّا بالرفع، وكذلك كلامُ العرب، يقولون: البَرْدُ شهران، فلا ينصبونه، وقال الواحديُّ: يمكنُ حملُه على غير إضمار، وهو أنَّ الأشهر جُعِلت نفسَ الحجِّ اتِّساعًا؛ لكون الحجِّ يقع فيها؛ كقولهم: ليلٌ نائمٌ.
          قوله: ({أَشْهُرٌ}) جمع (شهر) وليس الْمُرَادَ مِنْه ثَلَاثَةُ أشهرٍ كوامِل، ولكنَّ المراد شهران وبعض الثَّالِث، ووجهه أنَّ اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد؛ بدليل قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}[التحريم:4]، ولو قال: الحجُّ ثَلَاثَة أشهرٍ؛ كان يتوجَّه السُّؤَال، وقيل: نزَّل بعضَ الشهر منزلةَ كلِّه؛ كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان، ولعلَّ العهد عشرون سنةً أو أكثر، وإِنَّما رآه في ساعةٍ منها.
          قوله: ({مَعْلُومَاتٍ}) يعني: مَعْرُوفات عند الناس، لا يُشكِل عليهم، قال الزَّمَخْشَريُّ: وفيه: أنَّ الشرع لم يأتِ على خلاف ما عرفوه، وإِنَّما جاء مقرِّرًا له.
          قوله: ({فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}) أي: فمن ألزم نفسه بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه؛ {فَلَا رَفَثَ}، وهو جواب (مَن) الشرطيَّة، وقال القُتبِيُّ: الفرض هو وجوب الشيء، يقال: فرضت عليكم؛ أي: أوجبت، قال اللهُ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}[البقرة:237] أي: ألزمتم أنفسكم، وقَالَ ابْنُ عَبَّاس: الفرض التلبية، وقال الضَّحَّاك: هو الإحرام، قال عَطَاء: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ}: مَن أهلَّ فيهنَّ بالحجِّ.
          قوله: ({فَلَا رَفَثَ}) نفيٌ، ومعناه النهي؛ أي: فلا ترفثوا، وقرأ ابْن كَثِيرٍ وأَبُو عَمرٍو: {فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ} بالرفع مع التنوين، وقرأ الباقون بالنصب بغير تنوين، واتَّفقوا في قوله: ({وَلَا جِدَالَ}) بالنصب، غير أَبِي جَعْفَر المَدَنِيِّ، فَإِنَّهُ قرأه بالرفع، وهذا يقال له: «لا» التبرِئة، ففي كلِّ موضع يدخُلُ فيه «لا» التبرئة فصاحبُه بالخيار، إن شاء نصبه بغير تنوين، وإن شاء ضمَّه بالتنوين، وقال الزَّمَخْشَريُّ: وَالْمُرَاد بالنفي وجوبُ انتفائها، وأنَّها حقيقة لا تكون، وقُرِئَ المنفيَّات الثلاث بالنصب والرفع، وقرأ أبو عَمْرٍو وابْن كَثِيرٍ الأوَّلين بالرفع والآخر بالنصب؛ لأنَّهما حملا الأوَّلين على معنى النهي؛ كأنَّه [قيل: فلا يكونَنَّ رفثٌ ولا فسوقٌ، والثَّالِث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال؛ كأنَّه] قال: ولا شكَّ ولا خلافَ في الحجِّ.
          النوع / الثَّانِي: في معناها:
          قوله: ({الْحَجُّ}) في اللغة: القصد، مِن قولهم: حججتُ الشيء أحجُّه حَجًّا؛ إذا قصدتَه، وقال الأزهريُّ: وأصل «الحجِّ» مِن قولك: حججتُ فلانًا أحجُّه حجًّا؛ إذا عدتَ إليه مَرَّةً بعد أخرى، فقيل: حجُّ البيت؛ لأنَّ الناس يأتونه كلَّ سنة، و(الحجُّ) في اصطلاح الشرع: قصدٌ إلى زيارة البيت الحرام على وجه التعظيم بأفعالٍ مخصوصة.
          قوله: ({أَشْهُرٌ}) جمع (شهر) جمع قلَّة؛ لأنَّه على وزن (أفعُل) بِضَمِّ العين، و(الشهر) عبارة عن الزمان الَّذِي بين الهلالين، واشتقاقه مِن (الشُّهرة)، و(الهلال) أَوَّل ليلةٍ مِنَ الشهر والثانية والثالثة، ثُمَّ هو قمرٌ بعد ذلك إلى آخر الشهر، وفي الليلة الرابعة عَشَر يقال له: بدرٌ؛ لتمامه، وقَالَ الجَوْهَريُّ: إِنَّما سُمِّيَ بدرًا لمبادرته الشمس بالطلوع، وقال الفَرَّاء: هو في أَوَّل ليلةٍ هلالٌ، ثُمَّ قُمَير، ثُمَّ قَمَر، ثُمَّ بَدر.
          قوله: ({فَلَا رَفَثَ}) (الرَّفث) الجِماع؛ كما في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ}[البقرة:187]، وهو حرامٌ على المُحرِم، وكذلك دواعيه مِنَ المباشرة والتقبيلِ ونحو ذلك، وكذا التكلُّم بحضرة النساء، وقَالَ ابْنُ جَرِير: حَدَّثَني يُونُس: أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب: أخبرني يُونُس: أنَّ نافعًا أخبره: أنَّ عَبْد اللهِ بْن عُمَرَ كان يقول: الرفث: إتيان النساء، والتكلُّم بذلك: الرجالُ والنساءُ إذا ذكروا ذلك بأفواههم، وقَالَ ابْنُ وَهْب: وحَدَّثَنِي أَبُو صخر عن مُحَمَّد بن كعبٍ مثله، وقال عَبْد اللهِ بْن طَاوُوس عَنْ أَبِيهِ: سألت ابْن عَبَّاس عن قول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة:197] قال: الرفث: التعرُّض لذكر الجِماع، وهي «العَرابة» في كلام العرب، وهو أدنى الرفث، وقال عَطَاء بْن أَبِي رَبَاحٍ: الرفث: الجِماع وما دونه مِن قول الفُحش، وكذا قال عَمْرو بْن دِينَار، وقال: وكانوا يكرهون العَرابة؛ وهو التعريض بذكر الجِماع، وهو محرَّم، وقال طَاوُوس: هو أن يقول للمرأة: إذا حللتِ أصبتُكِ، وكذا قال أَبُو الْعَالِيَةِ، وقَالَ ابْنُ عَبَّاس وابْن عُمَرَ ♥ : الرفث: غِشيان النِّساء، وكذا قال سَعِيد بْن جبير وعِكْرِمَة ومجاهد وإِبْرَاهِيم وأَبُو الْعَالِيَةِ ومَكْحُول وعَطَاء الْخُرَاسَانِيُّ وعَطَاء بْن يسار وعطيَّة والربيع والزُّهْريُّ والسُّدِّيُّ ومَالِك بْن أَنَس ومقاتِلُ بن حيَّان وعَبْد الْكَرِيمِ بْن مَالِك والحسن وقَتَادَة والضَّحَّاك وآخرون.
          قوله: ({وَلَا فُسُوقَ}) قال مِقْسَمٌ وغيرُ واحدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاس: هي المعاصي، وكذا قال عَطَاء ومجاهد وطَاوُوس وسَعِيد بْن جبير والحسن والنَّخَعِيُّ وقَتَادَة والزُّهْريُّ ومَكْحُول وعَطَاء الْخُرَاسَانِيُّ وعَطَاء بْن يسار ومقاتل بن حيَّان، وقال مُحَمَّد بْن إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قال: الفسوق: ما أُصيب مِنَ معاصي الله، صيدًا أو غيره، وروى ابْن وَهْب عَنْ يُونُسَ عَنْ نَافِعٍ: أنَّ عَبْد اللهِ بْن عُمَرَ كان يقول: الفسوق: إتيان معاصي الله في الحَرَم، وقال آخرون: الفسوق ههنا: السِّباب، قاله ابْن عَبَّاس وابْن عُمَرَ والزُّهريِّ وابن الزُّبَير ومجاهد والسُّدِّيُّ وإِبْرَاهِيم والحسن، وقد تمسَّك هؤلاء بما في «الصَّحِيحين»: «سِبابُ المُسْلِم فسوقٌ، وقتالُه كفرٌ»، وروى ابْن أَبِي حَاتِم مِنْ حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَم: الفسوق ههنا: الذبح للأصنام، وقال الضَّحَّاك: الفُسوق: التنابز بالألقاب.
          قوله: ({وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}) فيه قولان؛ أحدهما: ولا مجادلةَ في وقت الحج وفي مناسِكه، والثَّانِي: أنَّ الْمُرَاد بـ(الجدال) ههنا المخاصمة، وعن ابْن مَسْعُود في قوله: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قال: أن تماريَ صاحبك حَتَّى تغضبَه، وعَنِ ابْنِ عَبَّاس: الجدال: المِرَاء والمُلاحاة حَتَّى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى اللَّه عن ذلك، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ: الجدال: المِراء والسِّباب والخصومات.
          النوع الثَّالِثُ: في الأحكامِ المتعلِّقةِ بأشهرِ الحجِّ:
          قال الله تَعَالَى: {أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} وهي: شوَّال، وذو القعدة، وعشر مِن ذي الحجَّة، وَهُو قَولُ أكثر العلماء، وهو المنقول عَنْ عَطَاء وطَاوُوس ومجاهد وإِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ والحسن وابْن سِيرِينَ ومَكْحُول وقَتَادَة والضَّحَّاك والربيع بْن أَنَس ومقاتل بن حيَّان، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ والشَّافِعِيِّ وأَحْمَد وأَبِي يُوسُفَ وأَبِي ثَوْرٍ، واختاره ابْن جَرِير، ويحكى عن عمر وعَلِيٍّ وابْن مَسْعُود وعَبْد اللهِ بن الزُّبَير وابْن عَبَّاس، ♥ ، وقال مَالِك والشَّافِعِيُّ في القديم: هي شوَّال، وذو القعدة، وذو الحجَّة بكماله، وهو رِوَايَة / عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا، وقَالَ ابْنُ جَرِير: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِسْحَاقَ قال: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد: حَدَّثَنَا شَريك عن إِبْرَاهِيم بن مُهاجِر عن مجاهد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قال: شوَّال، وذو القعدة، وذو الحجَّة.
          وقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِم في «تَفْسِيره»: حَدَّثَنَا يُونُس بن عَبْد الأَعْلَى: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْب: أخبرني ابْن جُرَيْجٍ قال: قلت لنافع: أسمعتَ عَبْد اللهِ بْن عُمَرَ يسمِّي شهور الحجِّ؟ قال: نعم، كان عَبْد اللهِ يسمِّي شوَّالًا وذا القعدة وذا الحجَّة، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وقال ذلك ابْن شِهَاب وعَطَاء وجَابِر بْن عَبْد اللهِ صاحب النَّبِيِّ صلعم ، وهذا إسنادٌ صَحِيح إلى ابْن جُرَيْج، وحُكيَ هذا أَيْضًا عن مجاهد وطَاوُوس وعُرْوَة بْن الزُّبَير والربيع بْن أَنَس وقَتَادَة، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ في «تَفْسِيره»: وجاء فيه حديثٌ مرفوع، ولكنَّه موضوع، رَوَاهُ الحافظ ابن مَرْدويه مِنْ طَرِيقِ حُصَين بن مُخارِق، _وهو متَّهم بالوضع_ عَنْ يُونُسَ بن عُبَيد عن شَهْر بن حَوْشَب عن أبي أمامة قال: قال رَسُول اللهِ صلعم : «أشهر معلومات: شوَّال، وذو القعدة، وذو الحجَّة»، وهذا كما رأيتَ لا يصحُّ رفعه.
          واحتجَّ الْجُمْهُور بما علَّقه البُخَاريُّ _على ما يجيء_: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: هي شوال، وذو القعدة، وعشر مِن ذي الحجَّة، ورَوَاهُ ابْن جَرِير: حَدَّثَنِي أَحْمَد بن حازم ابْن أَبِي غَرَزَة: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْم: حَدَّثَنَا ورقاء عن عَبْد اللهِ بْن دِينَار عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أشهر الحجُّ معلومات، قال: شوَّال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجَّة، إسناده صَحِيح، رَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضًا في «مستدرَكه» عن الأصمِّ عن الْحَسَن بْن عَلِيِّ بْن عَفَّان، عن عَبْد اللهِ بْن نُمَيْر، عن عُبَيْد اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ...؛ فذكره، وقال: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وعن الْحَاكِم رَوَاهُ البَيْهَقيُّ في «المعرفة» بإسناده ومتنه.
          ومِمَّا احتجَّ به مَالِكٌ ما رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ في «سننه» عن شريك عن أَبِي إِسْحَاقَ عن الضَّحَّاك عَنِ ابْنِ عَبَّاس، قال: أشهر الحجِّ: شوَّال، وذو القعدة، وذو الحجَّة، ورَوَاهُ أَيْضًا عن ابْن مَسْعُود نحوه، وعن عَبْد اللهِ بن الزُّبَير نحوه، وقال الطَّبَريُّ: إِنَّما أراد مَن قال: «أشهر الحجِّ شوَّال وذو القعدة وذو الحجَّة» أنَّ هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، إِنَّما هي للحجِّ وإن كان الحجُّ ينقضي بانقضاء أيَّام منًى.
          قُلْت: الإحرام بالحجِّ فيها أكملُ مِنَ الإحرام به فيما عداها وإن كان صَحِيحًا، والقول بصحَّة الإحرام في جميع السَّنة مذهب مَالِك وأَبِي حَنِيفَةَ وأَحْمَد وإِسْحَاقَ، وَهُوَ مَذْهَبُ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ والثَّوْريِّ واللَّيْث بْن سعد، ومذهب الشَّافِعِيِّ: أنَّهُ لا يصحُّ الإحرام بالحجِّ إلَّا في أشهر الحجِّ، فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به، وهل ينعقد عُمْرة؟ فيه قولان عنه، والقول بأنَّه لا يصحُّ الإحرام بالحجِّ إلَّا في أشهر الحجِّ مرويٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاس وجابر، وبه يقول طَاوُوس وعَطَاء ومجاهد.
          فَإِنْ قُلْتَ: هل يدخل يَوْم النَّحْرِ في عشر ذي الحجَّة أم لا؟
          قُلْت: قال أَبُو حَنِيفَةَ وأَحْمَد: يدخل، وقال الشَّافِعِيُّ: لا يدخل، وهو المشهور المصحَّح عنه، وَقالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّة: تسعٌ مِن ذي الحجَّة، ولا يصحُّ في يَوْم النَّحْرِ ولا ليلته، وهو شاذٌّ.
          (ص) وَقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[البقرة:189].
          (ش) (وَقَوْلِهِ) عطف على (قولِ اللهِ تَعَالَى) أي: وفي بيان تَفْسِير قول اللهِ ╡ ، وقال العَوفيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاس: سأل الناسُ رسولَ اللَّه صلعم عن الأهلَّة، فنزلت هذه الآية يَعلمون بها حلَّ دينهم وعدَّة نسائهم ووقت حجِّهم، وقال أَبُو جَعْفَر عن الربيع عن أَبِي الْعَالِيَةِ: بَلَغَنا أنَّهم قالوا: يا رَسُول اللهِ؛ لم خلقت الأهلَّة؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ}، وقال الواحديُّ: عَنْ مُعَاذ: يا رَسُول اللهِ؛ إنَّ اليهود تغشانا، ويكثرون مسألتنا، فَأَنْزَلَ اللهُ هذه الآية، وقال النَّسَفِيُّ في «تَفْسِيره»: نزلت الآية في عَدِيِّ بن حاتم ومُعَاذ بْن جَبَلٍ، سألا رَسُول اللهِ صلعم عن الهلال، فنزلت؛ أي: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} ما لها تبدو صغيرة ثُمَّ تصير بدورًا ثُمَّ تعود كالعرجون؟ وما معنى تغيِّر أحوالها؟ وقال الكلبيُّ: نزلت في مُعَاذ وثعلبة بن غنمة الأَنْصَاريَّين، قالا: يا رَسُول اللهِ؛ ما بالُ الهلال يبدو دقيقًا مثلَ الخيط، ثُمَّ يزيد ثُمَّ ينقص؟ فنزلت.
          و(الأَهِلَّة) جمع (هِلال)، وهو إذا كان لليلةٍ أو ليلتين، وسُمِّيَ به لأنَّ الناس / يرفعون أصواتَهم عند رؤيته.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما وجهُ ذكر الحجِّ بالخصوص مِن بين العبادات؟
          قُلْت: لكونِه أهمَّ وأشقَّ؛ ولهذا ذكر البُخَاريُّ بعضَ هذه الآية.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أشْهُرُ الحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو القِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحجَّةِ.
          (ش) هَذَا التَّعْلِيقُ وصله ابْن جَرِير، وقد ذكرناه عَنْ قَرِيبٍ، ووصله الطَّبَريُّ والدَّارَقُطْنيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ وَرْقاء عن عَبْد اللهِ بْن دِينَار عنه، قال: الحجُّ أشهر معلومات، شوَّال وذو القعدة وعشرٌ مِن ذي الحجَّة.
          فَإِنْ قُلْتَ: روى مَالِكٌ في «الموطَّأ» عن عَبْد اللهِ بْن دِينَار عَنِ ابْنِ عُمَرَ قال: مَن اعتمر في أشهر الحجِّ شوَّال أو ذي القعدة أو ذي الحجَّة قبل الحجِّ؛ فقد استمتع؟
          قُلْت: لعلَّه تجوَّز في ذكر ذي الحجَّة بكماله، وبهذا يُجمَع بين الروايتين.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: مِنَ السُّنَّةِ ألَّا يُحْرِمَ بِالحَجِّ إلَّا فِي أشْهُرِ الحَجِّ.
          (ش) هَذَا التَّعْلِيق وصله ابْن خُزَيْمَةَ والْحَاكِم والدَّارَقُطْنيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَم عن مِقْسَمٍ عنه، قال: لا يحرم بالحجِّ إلَّا في أشهر الحجِّ، فإنَّ مِن سُنَّة الحجِّ أن يحرم بالحجِّ في أشهر الحجِّ، وقال الْحَاكِم: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وقَالَ الكَرْمَانِيُّ: «مِنَ السُّنَّة» أي: مِنَ الشريعة؛ إذ هو واجب، ولا ينعقد الإحرام بالحجِّ إلَّا في أشهره عند الشَّافِعِيِّ، وأَمَّا عند غيره فلا يصحُّ شيء مِن أفعال الحجِّ إلَّا فيها.
          قُلْت: هذا تَفْسِيرٌ على مساعدة ما قاله إمامه، ولكن لا يساعده هذا؛ فإنَّ قوله: (مِنَ السُّ‍نَّةِ) لا يدلُّ على الوجوب قطعًا؛ إذ يحتمل أَنْ يَكُونَ مِنَ السنَّة الَّتِي إذا فعلها كان له أجرٌ، وإذا تركها لا يفسد ما فعله مِنَ الإحرام قبل أشهر الحجِّ، وأَيْضًا قوله: (وأَمَّا عند غيره) فليس بقسيمٍ لِمَا قبله مِمَّا قاله الشَّافِعِيُّ؛ لأنَّ قسيمَه أن يقال: وأَمَّا عند غيره فينعقد الإحرام بالحجِّ قبل أشهر الحجِّ، والَّذِي ذكره متَّفقٌ عليه؛ لأنَّ أفعال الحجِّ قبل أشهر الحجِّ لا تصحُّ بلا خلاف.
          (ص) وَكِرِهَ عُثْمَانُ ☺ أنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أوْ كَرْمانَ.
          (ش) وهَذَا التَّعْلِيق وصله ابن أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه» عن عَبْد الأَعْلَى عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ: أنَّ ابن عامر أَحرَمَ مِنَ خراسان، فعاب عليه عثمانُ وغيرُه، فكرهوه، وروى أَحْمَد بن سيَّار في «تاريخ مَرْو» مِنْ طَرِيقِ داود بْن أَبِي هند قال: لمَّا فتح عَبْد اللهِ بن عامر خراسان؛ قال: لأجعلنَّ شُكْري لله أن أخرُجَ مِن موضعي هذا مُحرِمًا، فأحرم مِن نَيْسابور، فلمَّا قدِم على عُثْمَان؛ لامَهُ على ما صنع.
          قُلْت: عَبْد اللهِ بن عامر بن كُرَيز بْن رَبِيعَةَ بْن حَبِيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيٍّ القرشيُّ العَبْشَمِيُّ، ابن خال عُثْمَان بْن عَفَّان، وُلِدَ في حياة رَسُول اللهِ صلعم ، وتفل في فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلعم ، واستنابه عُثْمَانُ على البصرة بعد أبي مُوسَى الأشعريِّ، وولَّاه بلاد فارس بعد عُثْمَان بْن أَبِي العاص، وعُمرُه إذ ذاك خمسٌ وعشرون سنة، ففتح خُرَاسان كلَّها وأطرافَ فارس وكَرْمَان وسِجِسْتَان وبلاد غَزْنَة، وقُتِلَ كِسْرى في أيامه وهو يَزْدَجرْد، مَاتَ فِي سَنَةِ ثَمَان وَخَمْسِينَ مِن الْهِجْرَةِ.
          وأَمَّا (خراسان) فإقليمٌ واسع مِن الغرب المفازة الَّتِي بينها وبين بلاد الجبل وجُرْجان، ومِن الجنوب مفازة واصلة بينها وبين فارس وقَوْمس، ومِن الشرق نواحي سِجِستان وبلاد الهِند، ومِن الشمال بلاد ما وراء النهر وشيء مِن تركستان، وخُراسان تشتمل على كُوَر كثيرة، كلُّ كَوْرةٍ منها نحوُ إقليم، ولها مدنٌ كثيرة؛ منها: بلخ في وسط خُراسان، خرج منها خلقٌ مِن الأئِمَّة والعلماء والصالحين لا يُحصَون، ومنها: جُرْجان وطَالَقان وطَابَران وكَشْميهَن ونَسَا وهَراة.
          وأَمَّا (كَِرْمَان) فبفتحِ الكاف، وقيل: بكسرها، وفي «المشترك»: هو صقع كبير بين فارس وسِجِستان، وحدُّها متَّصل بخراسان، ومِن بلادها المشهورة: زَرَنْد والسِّيرَجَان، وهي مِن أكبر مدن كَرمان.