عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت}
  
              

          ░123▒ (ص) باب: / {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}[الحج: من 26-30].
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَرُ فيه قولُه تعالى: ({وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ...}) ؛ الآيات إلى قوله: ({خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}) هكذا وقعَ في رواية كريمةَ، وقال بعضهم: والمراد منها ههنا قولُه تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ولذلك عطفَ عليها في الترجمة: «وما يأكلُ مِنَ البدن وما يتصدَّق» أي: بيان المراد مِنَ الآية انتهى.
          قُلْت: هذا الذي قاله إِنَّما يمشي أَن لو لم يكن بينَ هذه الآياتِ وبينَ قوله: (ما يأكل مِنَ البدن وما يتصدَّق) بَابٌ؛ لأنَّ المذكورَ في معظم النُّسَخ بعدَ قولِهِ: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} (بابُ: ما يأكل مِنَ البدن وما يتصدَّق)، وأين العطفُ في هذا وكلُّ واحدٍ مِنَ البابَين ترجمةٌ مستقلَّةٌ؟ والظاهر أنَّهُ ذكر هذه الآياتِ ترجمةً ولم يذكرْ فيها حديثًا يطابقها؛ إمَّا لأنَّه لم يجده على شرطه، أو أدركه الموت قبل أن يضعه، ووجهٌ آخر _وهو أقربُ منه_: وهو أنَّ هذه الآياتِ مشتملةٌ على أحكامٍ: ذكر هذه الآياتِ تنبيهًا على هذه الأحكام؛ وهي تطهير البيت للطائفين والمصلِّين مِنَ الأصنام والأوثان والأقذار، وأمرُ الله تعالى لرسوله أن يؤذِّنَ للنَّاس بالحجِّ، وذلك في حجَّة الوداعِ _على ما نذكره عن قريبٍ_ وشهود المنافع الدينيَّة والدنياويَّة المختصَّة بهذه العبادة، وذكر اسم الله تعالى في أيَّامٍ معلومات؛ وهي عَشْرُ ذي الحجَّة على قولٍ، وشكرهم له على ما رزقَهم مِنَ الأنعام يذبحون وينحرون، والأمرُ بالأكل منها وإطعام الفقير، وقضاء التَّفثِ؛ مثل: حلقِ الرأسِ ونحوه، والوفاء بالنَّذرِ، والطواف بالبيت العتيق، وتعظيم حرمات الله تعالى.
          قوله: ({وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ}) أي: اذكُر إذ جعلْنَا لإبراهيمَ مكانَ البيتٍ مَباءةً مَرجعًا يرجع إليه للعبادة والعمارة، يقال: تبوَّأ الرجلُ منزلًا: اتَّخذه، وبوَّأه غيرُه منزلًا: أعطاه، وأصله: «باءَ»؛ إذا رجع، واللَّام في ({لإِبْرَاهِيمَ}) مقحمة؛ كقوله: {بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}[يونس:93]، وقوله: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عِمْرَان:121].
          قوله: ({مَكَانَ الْبَيْتِ}) أي: موضع الكعبة، قيل: «المكانُ» جوهرٌ يمكن أن يثبت عليه غيره؛ كما أنَّ الزمان عَرَضٌ يُمكِنُ أن يحدث فيه غيره.
          فَإِنْ قِيلَ: كيفَ يكونُ النهي عنِ الإشراك والأمرُ بالتطهير تفسيرًا للتَّبْوِئة؟ أجيب: بأنَّه كانت التَّبْوِئة مقصودةً مِن أجل العبادة، فكأنَّه قيل: تعبَّدْنا إبراهيمَ قُلنا له: لا تشرك بي شيئًا، وطهِّر بيتي مِنَ الأصنام والأوثان.
          قوله: ({وَالْقَائِمِينَ}) أي: المصلِّين؛ لأنَّ (الصلاةَ) قيامٌ وركوعٌ وسجودٌ، و({الرُّكَّعِ}) جمع (رَاكِعٍ)، و(السُّجَّد) جمع (ساجدٍ)، ولم يذكرِ الواوَ بين {الرُّكَّعِ} و(السَّجَّد)، وذكر بين {القَائِمين} و{الرُّكَّعٍ} لكمال الاتِّصال بين {الرُّكَّع} و(السُّجَّد) ؛ إذ لا ينفكُّ أحدهما عن الآخر في الصلاة، فرضًا أو نفلًا، وينفكُّ القيامُ مِنَ الركوع، فلا يكون بينهما كمالُ الاتِّصال.
          قوله: ({وَأَذِّنْ}) أي: نادِ، عطفٌ على قوله: {وَطَهِّرْ} والنداءُ بالحجِّ أن يقولَ: حُجُّوا، أمرَ إبراهيم ◙ أن يُؤذِّن في النَّاسِ بالحجِّ، وقال إبراهيم ◙ : يا ربِّ؛ وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن وعليَّ البلاغُ، وعن الحسن: أنَّ قوله: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} كلامٌ مستأنفٌ، وأنَّ المأمورَ بهذا التأذين مُحَمَّدٌ صلعم ، أُمِرَ أن يفعل ذلك في حجَّة الوداع.
          قوله: ({رِجَالًا}) أي: مُشاةً على أرجُلِهِم، جمع (رَاجِلٍ) ؛ مثل: (قائم وقِيام)، و(صائم وصِيام).
          قوله: ({وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}) أي: ورُكْبانًا، و(الضَّامِرُ) البعيرُ المهزولُ، وانتصاب {رِجَالًا} على أنَّهُ حال، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أيضًا حالٌ معطوفةٌ على الحال الأوَّل.
          قوله: ({يَأْتِينَ}) صفةٌ لـ{كلِّ ضَامِرٍ} لأن {كُلَّ ضَامِرٍ} في معنى الجمعِ، أراد: النُّوق.
          قوله: ({مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}) أي: طريقٍ بعيدٍ.
          قوله: ({لِيَشْهَدُوا}) أي: / ليحضروا {مَنَافِعَ لَهُمْ} مختصَّة بهذه العبادة مِن أمور الدين والدنيا، وقيل: «المنافع»: التجارة، وقيل: العفو والمغفرة.
          قوله: ({فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}) يعني: عشر ذي الحجَّة، وقيل: تسعة أيَّام مِنَ العشر، وقيل: يوم الأضحى وثلاثة أيَّام بعده، وقيل: أيَّام التَّشريق، وقيل: إِنَّها خمسةُ أيَّامٍ؛ أوَّلها يوم التروية، وقيل: ثلاثة أيَّام؛ أوَّلها يوم عرفة، و(الذِّكْرُ) ههنا يدلُّ على التسمية على ما نحرَ؛ لقوله: ({عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}) يعني: الهدايا والضحايا؛ مِنَ الإبل والبقر والغنم، و(البهيمة) مبهمة في كلِّ ذات أربعٍ في البرِّ والبحر، فبُيِّنَت بـ{الأَنْعَامِ} وهي الإبلُ والبقرُ والضَّأنُ والمَعْزُ.
          قوله: ({فَكُلُوا مِنْهَا}) الأمرُ بالأكل منها أمرُ إباحةٍ؛ لأنَّ أهل الجاهليَّة كانوا لا يأكلون مِن نسائكهم، ويجوز أن يكونَ نَدْبًا؛ لما فيه مِن مواساةِ الفقراء ومساواتهم، واستعمال التواضع.
          قوله: ({وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ}) أي: الذي أصابه بؤسٌ؛ أي: شدَّة الفقر، وذهب الأكثرون إلى أنَّهُ ليس بواجبٍ.
          قوله: ({ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}) قال عطاءٌ عن ابن عَبَّاس: «التَّفَثُ» حلقُ الرأس، وأخذ الشَّاربِ، ونتفُ الإبط، وحلقُ العانة، وقصُّ الأظفار، والأخذُ مِنَ العارضَين، ورمي الجمار، والوقوفُ بعرفةَ، وقيل: مناسك الحجِّ، و(التَّفث) في الأصل: الوسخُ والقذارةُ مِن طول الشعر والأظفار والشعث، و(قضاؤه) نقضُه وإذهابه، وقال الزجَّاج: أهل اللُّغة لا يعرفون التَّفثَ إلَّا مِنَ التَّفسير، وكأنَّه الخروج مِنَ الإحرام إلى الإحلالِ.
          قوله: [({وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}) أي: نذرَ الحجِّ والهدي، وما ينذر الإنسانُ مِن أعمال البرِّ في حجِّهم.
          قوله]
: ({وَلْيَطَّوَّفُوا}) أرادَ الطوافَ الواجبَ؛ وهو طواف الإفاضة، والزيارة التي تُطافُ بعدَ الوقوف، إمَّا يومَ النحرِ أو بعده.
          قوله: ({بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}) أي: بالكعبة، سُمِّي العتيقَ لِقِدَمِه، أو لأنَّه أُعتِقَ مِن أيدي الجبابرة، فلم يصلُوا إلى تخريبه، فلم يظهر عليه جبَّارٌ ولم يُسلَّط عليه إلَّا مَن يُعظِّمه ويحترمه، وقيل: لأنَّه لم يُملَكْ قطُّ، وقيل: لأنَّه أُعتِقَ مِنَ الغرق يومَ الطوفان.