عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم
  
              

          ░106▒ (ص) بابُ مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ أَحْرَمَ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ (مَن أشعرَ) هديَه، وفي بيانِ مَن (قلَّدَه)، والكلامُ في هذين الفصلَين على أنواعٍ:
          الأَوَّل: في تفسير (الإشعار) لغةً:
          وهو مِنَ الشعورِ في الأصل، وهو العلمُ بالشيء، مِن (شَعَرَ يَشْعُرُ) مِن (باب نصَرَ ينصُرُ) إذا علِمَ، و(أشعرَ) مِنَ الإشعارِ _بكسر الهمزة_ وهو الإعلامُ.
          النوع الثاني: في تفسيره شرعًا:
          وهو أن يضرِبَ صفحةَ سنامها اليمنى بحديدةٍ حَتَّى تتلطَّخ بالدم ظاهرًا، ولا نظر إلى ما فيه مِنَ الإيلام؛ لأنَّه لا منعَ إلَّا ما منعه الشرعُ، وذكر القزَّاز: أشعرَها إشعارًا، وإشعارُها: أن يُوجَأ أصلُ سنامِها بسكِّين، سُمِّيت بما حلَّ فيها؛ وذلك لأنَّ الذي فعلتَ بها علامةٌ تُعرَفُ بها، وفي «المحكَم»: هو أن يَشقَّ جلدَها أو يَطعنَها حَتَّى يظهرَ الدمُ، وزعم ابن قُرْقُولَ أنَّ إشعارَها هو تعليمُها بعلامةٍ، تشقُّ جلد سنامها عرضًا مِنَ الجانب الأيمن، هذا عند الحجازيِّين، وأَمَّا العراقيُّون؛ فالإشعار عندهم تقليدُها بقلادةٍ، وقيل: «الإشعارُ» أن يكشطَ جلدَ البدنةِ حَتَّى يسيلَ دمٌ، ثُمَّ يَسْلُتُه، فيكون ذلك علامةً على كونها هديًا.
          النوع الثالث: في كيفيَّة الإشعارِ والاختلاف الذي فيها:
          قال أبو يوسف ومُحَمَّد: كيفيَّة الإشعارِ أن يطعنَها في أسفل سنامِها مِنَ الجانب الأيسر حَتَّى يسيلَ الدمُ، وعند الشَّافِعِيِّ وأحمد في قول: الأيمن، وقال السفاقسيُّ: إذا كانت البدنةُ ذللًا؛ أشعرَها مِنَ الأيسر، وإن كانت صعبةً؛ قرنَ بدنتَين، ثُمَّ قام بينهما وأشعرَ إحداهما مِنَ الأيمن والأخرى مِنَ الأيسر، وقال ابن قُدَامة: وعن أحمد مِنَ الجانب الأيسر؛ لأنَّ ابن عمر فعله، وبه قال مالك، وحكاه ابن حزم عن مجاهد، يقول: كانوا يستحبُّون الإشعارَ في الجانب الأيسر، وفي «شرح الموطَّأ» للإشبيليِّ: وجائزُ الإشعار في الجانب الأيمن، وفي الجانب الأيسر، وكانَ ابنُ عمر ربَّما فعلَ هذا وربَّما فعل هذا، وأكثرُ أهلِ العلم يستحبُّونه في الجانب الأيمن، منهم الشَّافِعِيُّ وإسحاقُ؛ لحديث ابن عَبَّاس: «أنَّ رسول الله صلعم صلَّى الظهر بذي الحليفة، ثُمَّ دعا ببدنةٍ، فأشعرها مِن صفحة سنامها اليمنى، ثُمَّ سَلَتَ الدمَ عنها، وقلَّدها بنعلَين»، أخرجه مسلمٌ، وعند أبي داود: «ثُمَّ سلت الدم بيده»، وفي لفظ: «ثُمَّ سلت الدمَ بإصبعه»، وقال ابن حبيب: يشعر طولًا، وقال السفاقسيُّ: عرضًا، والعرضُ: عرضُ السنامِ مِنَ العنق إلى الذَّنبِ، وقال مجاهد: أشعِرْ مِن حيث شئتَ، ثُمَّ قال: والإشعارُ طولًا في شقِّ البعير أخذًا مِن جهة مُقدَّمِ البعير إلى جهة عجزِه، فيكون مجرى الدمِ عريضًا، فيتبيَّن الإشعار، ولو كانَ معَ عرض / البعير؛ كان مجرى الدمِ يسيرًا خفيفًا لا يقع به مقصودُ الإعلان بالهَدْيِ.
          النوع الرابع: في صفة الإشعارِ:
          ذهبَ جمهور العلماء إلى أنَّ الإشعارَ سُنَّةٌ، وذكر ابن أبي شَيْبَةَ في «مُصنَّفه» بأسانيدَ جيِّدةٍ عن عائشة وابن عَبَّاسٍ: «إن شئتَ فأشعِرْ، وإن شئت فلا»، وقال ابن حزم في «المحلَّى»: قال أبو حنيفة: أكرهُ الإشعارَ؛ وهو مثلة، وقال: هذه طامَّةٌ مِن طوامِّ العالم! أن يكون مُثلةً شيءٌ فعلَه رسولُ الله صلعم ، أفٍّ لكلِّ عقلٍ يتعقَّب حكمَ رسول الله صلعم ، ويلزمه أن تكون الحجامةُ وفتحُ العرق مُثلةً، فيمنَع مِن ذلك، وهذه قولةٌ لا يُعلَمُ لأبي حنيفةَ فيها مُتقدِّمٌ مِنَ السلف ولا موافقٌ مِن فقهاء عصره إلَّا مَنِ ابتلاه الله بتقليده.
          قُلْت: هذا سفاهةٌ وقلَّةُ حياء؛ لأنَّ الطَّحَاويَّ الذي هو أعلمُ الناسِ بمذاهب الفقهاء _ولا سيَّما بمذهب أبي حنيفة_ ذكر أنَّ أبا حنيفة لم يكره أصلَ الإشعار، ولا كونَه سُنَّةً، وإِنَّما كره ما يفعلُ على وجه يخاف منه هلاكها؛ لسراية الجرح، لا سيَّما في حَرِّ الحجاز معَ الطعن بالسنان، أو الشفرة، فأراد سدَّ البابِ على العامَّة؛ لأنَّهم لا يراعون الحدَّ في ذلك، وأَمَّا مَن وقفَ على الحدِّ، فقطعَ الجلدَ دون اللَّحمِ؛ فلا يكرهه، وذكر الكَرْمَانِيُّ صاحب «المناسك» عنه استحسانَه، قال: وهو الأصحُّ، لا سيَّما إذا كان بمِبْضَعٍ ونحوِه، فيصير كالفَصْدِ أو الحجامة.
          وأَمَّا قوله: (وهذه قولةٌ لا يُعلَمُ لأبي حنيفة فيها مُتقدِّمٌ مِنَ السلف...) فقولٌ فاسدٌ؛ لأنَّ ابن بَطَّالٍ ذكر أنَّ إبراهيم النَّخَعِيَّ أيضًا لا يرى بالإشعار، ولمَّا روى التِّرْمِذيُّ حديثَ ابنِ عَبَّاس: «أنَّ النَّبِيَّ صلعم قلَّد نعلَين، وأشعرَ الهديَ في الشقِّ الأيمن بذي الحليفة وأماطَ عنه الدمَ»؛ قال: سمعت يوسفَ بنَ عيسى يقول: سمعت وكيعًا يقول حينَ روى هذا الحديثَ: لا تنظرُوا إلى قولِ أهل الرأي في هذا؛ فإنَّ الإشعارَ سُنَّةٌ، وقولهم بدعةٌ، قال: وسمعتُ أبا السائب يقول: كنَّا عند وكيعٍ، فقال لرجل ممَّن ينظر في الرأي: أشعرَ رسول الله صلعم ، ويقول أبو حنيفة: هو مثلةٌ؟! قال الرجل: فَإِنَّهُ قد رويَ عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ أنَّهُ قال: الإشعارُ مثلةٌ، قال: فرأيتُ وكيعًا غضِبَ غضبًا شديدًا، وقال: أقول لك: قال رسولُ الله صلعم ، وتقول: قال إبراهيم؟! ما أحقَّكَ بأن تحبِسَ! ثُمَّ لا تخرجُ حَتَّى تنزعَ عَن قولك هذا انتهى، وقال الخَطَّابيُّ: لا أعلم أحدًا يكره الإشعارَ إلَّا أبا حنيفة، قال: وخالفَه صاحباه، وقالا بقول عامَّة أهل العلم.
          قُلْت: الجواب عمَّا نقله التِّرْمِذيُّ عن وكيع، وعمَّا قاله الخَطَّابيُّ، وعَن قولِ كلِّ مَن يتعقَّب على أبي حنيفة بمثل هذا يحصل مِمَّا قاله الطَّحَاويُّ، وقد رأيت كلَّ ما ذكروه فيه أريحيَّةُ العصبيَّة والحطُّ على مَن لا يجوز الحطُّ عليه، وحاشا مِن أهل الإنصاف أن يصدر منهم ما لا يليقُ ذكره في حقِّ الأئِمَّة الأجلَّاء، على أنَّ أبا حنيفة قال: لا أتَّبع الرأي والقياسَ إلَّا إذا لم أظفرْ بشيء مِنَ الكتاب أو السُّنَّة أو الصَّحابةِ ♥ وهذا ابن عَبَّاس وعائشةَ ♥ قد خيَّرا صاحب الهدي في الإشعار وتركه، على ما ذكرناه عَن قريب، وهذا يُشعِرُ منهما أنَّهما كانا لا يريانِ الإشعارَ سُنَّةً ولا مستحبًّا.
          النَّوع الخامس: في بيانِ الحكمة في الإشعارِ:
          منها: أنَّ البدنة التي أُشعِرَت إذا اختلطت بغيرها تميَّزت، وإذا ضلَّت عُرِفَت.
          ومنها: أنَّ السارق ربَّما ارتدعَ فتركها.
          ومنها: أنَّها قد تُعطَب فتُنحَر، فإذا رأى المساكينُ عليها العلامةَ؛ أكلوها، وإنَّهم يتبعُونها إلى المنحر لينالوا منها.
          ومنها: أنَّ فيها تعظيمَ شِعارِ الشرع، وحثَّ الغير عليه.
          النَّوع السَّادس: أنَّ الإشعارَ مختصٌّ بالإبل أم لا؟
          فقال ابن بَطَّالٍ: اختلفوا في إشعار البقر؛ فكان ابن عمر ☻ يشعر في أسنِمَتِها، وحكاه ابنُ حزم عن أُبَيِّ بْن كعب ☺ أيضًا، وقال ابن بَطَّالٍ: وقال الشعبيُّ: يُقَلِّدُ [ويُشعِرُ، وهو قولُ أبي ثور، وقال مالكٌ: يُشعِرُ / التي لها سنامٌ ويقلِّدُ، ولا يُشعِر التي لا سنامَ لها ويُقلِّد، وقال سعيدُ بن جبير: يُقلِّد] ولا يُشعِرُ، وأَمَّا الغنمُ فلا يُسَنُّ إشعارها لضعفها، ولأنَّ صوفَها يسترُ موضعَ الإشعار، وقال ابن التين: وما علمتُ أحدًا ذكرَ الخلاف في البقرة المُسْنَمة إلَّا الشيخَ أبا إسحاقَ، وما أراه موجودًا.
          النوع السابع: في التَّقليد، وهو سُنَّةٌ بالإجماع، وهو تعليقُ نعلٍ أو جلدٍ ليكون علامةَ الهدي، وقال أصحابُنا: لو قلَّد بعروةِ مزادةٍ أو لحي شجرةٍ أو شبه ذلك؛ جاز لحصول العلامة، وذهب الشَّافِعِيُّ والثَّوْريُّ إلى أنَّها تُقلَّد بنعلين، وهو قولُ ابن عمر، وقال الزُّهْريُّ ومالك: تجزئ واحدةٌ، وعن الثَّوْريِّ: يجزئ فمُ القربة، ونعلان أفضلُ لمَن وجدهما، وقال ابن بَطَّالٍ: غرض البُخَاريِّ مِن هذه الترجمة أن يبيِّنَ أن المستحبَّ ألَّا يُشعِرَ المُحرِمُ ولا يُقلِّد إلَّا في ميقات بلده، وقيل: الذي يظهر أنَّ غرضه الإشارةُ إلى ردِّ قول مجاهد، فَإِنَّهُ قال: (لا يشعر حَتَّى يحرم)، وهو عكسُ ما في الترجمة.
          (ص) وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ ☻ إِذَا أَهْدَى مِنَ الْمَدِينَةِ؛ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيَطْعُنُ فِي شِقِّ سَنَامِهِ الأَيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ، وَوَجَّهَهَا قِبَلَ الْقِبْلَةِ بَارِكَةً.
          (ش) مطابقته للترجمة من حيثُ إنَّ ابنَ عمر كان يُقلِّد ويُشعِرُ بذي الحليفة، فإنَّ بداءته بالتَّقليد والإشعارِ يدلُّ على أنَّهُ كانَ يُقدِّمهما على الإحرام، وفي الترجمة كذلك، فَإِنَّهُ قال: (ثُمَّ أحرم) أي: بعدَ الإشعار والتقليد أحرمَ.
          وهذا التعليق وصله مالكٌ في «الموطَّأ» قال: عن نافعٍ عن عبد الله بن عُمَر: أنَّهُ كانَ إذا أهدى هديًا مِنَ المدينة قلَّده بذي الحليفة [قبلَ أن يشعرَه، وذلك في مكانٍ واحدٍ وهو مُتوجِّه إلى القبلة، يقلِّده بنعلَين]، ويشعره مِنَ الشقِّ الأيسر، ثُمَّ يساق معه حَتَّى يوقف به مع النَّاس بعرفةَ، ثُمَّ يدفع به، فإذا قدِم غداة النَّحر؛ نحرَه.
          فَإِنْ قُلْتَ: الذي علَّقه البُخَاريُّ يدلُّ على الأيمن، والذي رواه مالكٌ يدلُّ على الأيسر.
          قُلْت: قال ابن بَطَّالٍ: روي أنَّ ابن عمر كانَ يُشعِرُها مَرَّةً في الأيمن، ومرَّةً في الأيسر، فأخذ مالك وأحمد _في روايةٍ_ بروايةِ الأيسر، وأخذ الشَّافِعِيُّ وأحمدُ _في رواية أخرى_ برواية الأيمن، وعن نافع عن ابن عمر: (كانَ إذا طعن في سَنامِ هديه وهو يشعره؛ قال: بسم الله والله أكبر).
          قوله: (إِذَا أَهْدَى مِنَ الْمَدِينَةِ) أي: هديه؛ (قَلَّدَهُ) والضمير المنصوب في (قلَّده) و(أَشْعَرَهُ) يرجِعُ إلى الهَدْيِ المُقدَّر الذي هو مفعول (أهدى) وصرَّح به في رواية مالكٍ، كما وقفتُ عليه.
          قوله: (وَيَطْعُنُ) بِضَمِّ العينِ، مِنَ الطَّعنِ بالرُّمحِ ونحوه.
          قوله: (فِي شِقِّ سَنَامِهِ) بكسر الشين المُعْجَمة، وهو الناحية والنصف.
          قوله: (بِالشَّفْرَةِ) بفتح الشين المُعْجَمة، وهو السِّكِّين العظيم.
          قوله: (وَوَجَّهَهَا) الضمير المنصوب فيه يرجِع إلى البَدَنَةِ التي هي الهدي، وليسَ بإضمار قبلَ الذكر؛ لدلالة القرينة عليه.
          قوله: (بَارِكَةً) نصب على الحال.