نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أمامكم حوض كما بين جرباء وأذرح

          6577- (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) هو: ابنُ مسرهد بن مسربل البصري الحافظ، أبو الحسن، قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هو: ابنُ سعيد القطَّان (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بضم العين، ابن عمر العُمري، أنَّه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (نَافِعٌ) مولى ابن عمر (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) ☻ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: أَمَامَكُمْ) بفتح الهمزة؛ أي: قُدَّامكم (حَوْضٌ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن المستملي والكُشميهني: <حوضي> بزيادة ياء الإضافة (كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ) بفتح الجيم والموحدة بينهما راء ساكنة آخره همزة ممدودة. قال القاضي عياض: جاءت في البخاري ممدودةً، وكذا في الفرع.
          وقال النَّووي في «شرح مسلم»: الصَّواب أنَّها مقصورة، وكذا ذكره الحازمي والجمهورُ، وقال: والمد خطأ. وأثبت صاحب «التحرير» المدَّ وجَوزَّ القصر. ويؤيِّد المد قول أبي عُبيد البكري: هي تأنيث أجرب. وقال الدِّمياطي: الجرباء على لفظ تأنيث الأجرب، قريةٌ بالشَّام.
          (وَأَذْرُحَ) بفتح الهمزة وسكون الذال المعجمة وضم الراء بعدها حاء مهملة. قال القاضي عياض: كذا للجمهور. ووقع في رواية العُذري في مسلم: بالجيم، وهو وهمٌ. وقد وقع اختلافٌ كثيرٌ في تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطُّول، فقد وقع في حديث أنسٍ ☺ بعده: «كما بين أيلة وصنعاء من اليمن» [خ¦6580]، وأيلة مدينةٌ كانت عامرةً، وهي بطرف بحرِ القلزم من طرف الشَّام، وهي الآن خرابٌ يمرُّ بها الحاجُّ من مصر فتكون شمالهم، ويمرُّ بها الحاجُّ من غزة فتكون أمامهم، ويجلبون إليها الميرة من الكرك / والسَّوْبَك وغيرهما، يتلقَّون بها الحاجُّ ذهاباً وإياباً، وإليها تنسبُ العقبة المشهورة عند المصريين، وبينها وبين المدينة النَّبويَّة نحو الشَّهر بسير الأثقال إن اقتصروا كلَّ يومٍ على مرحلة، وإلَّا فدون ذلك، وهي من مصر على أكثر من النِّصف من ذلك.
          ولم يُصِب من قال من المتقدِّمين: إنَّها على النِّصف ممَّا بين مصر ومكَّة، بل هي دون الثُّلث، فإنَّها أقربُ إلى مصر. ونقل القاضي عياض عن بعضِ أهل العلم: إنَّ أيلة من جبل رضوى الَّذي في ينبع.
          وتُعُقِّب بأنَّه اسمٌ وافق اسماً، والمراد بأيلة في الخبر: هي المدينة الموصوفة آنفاً، وقد ثبت ذكرها في «صحيح مسلم» في غزوة تبوك، وفي أنَّ صاحب أيلة جاء رسولَ الله صلعم وصَالَحَهُ. وأمَّا صنعاء؛ فإنَّما قيِّدت في هذه الروايةٌ باليمن احترازاً من صنعاء الَّتي بالشَّام قريةٌ على باب دمشق من ناحية باب الفراديس، قاله ياقوت.
          والأصل فيها: صنعاء اليمن، لمَّا هاجر أهل اليمن في زمن عمر ☺ عند فتوح الشَّام نزل أهل صنعاء في مكانٍ من دمشق فسمِّي باسم بلدهم، فعلى هذا فـ«مِن» في هذه الرِّواية في قوله: ((من اليمن)) إن كانت ابتدائيَّةً فيكون هذا اللَّفظ مرفوعاً، وإن كانت بيانيَّة فيكون مدرجاً من قول بعض الرُّواة، والظَّاهر أنَّه من الزُّهري، ووقع في حديث جابر بن سَمُرة أيضاً عند مسلم بعد ما بين طرفيه: «كما بين صنعاء وأيلة»، وفي حديث حذيفة مثله، لكن قال: «عدنٌ» بدل «صنعاء».
          وفي حديث أبي هريرة ☺: «أبعد من أيلة إلى عدن»، وعَدَن _بفتحتين_ بلدٌ مشهورٌ على ساحل البحر في أواخر سواحل اليمن، وأوائل سواحل الهند، وهي تُسامِتُ صنعاء على جهة الجبال. وفي حديث أبي ذرٍّ ☺: ((ما بين عُمَان إلى أيلة))، وعُمَان _بضم المهملة وتخفيف الميم_ بلدٌ على ساحل البحر من جهة البحرين. وفي حديث أبي برزة عند ابن حبَّان: ((ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلةَ وصنعاء، مسيرة شهر)). وهذه الرِّوايات متقاربةٌ؛ لأنَّها كلُّها نحو شهرٍ / أو يزيد أو ينقص.
          ووقع في رواياتٍ أخرى التَّحديد بما دون ذلك، فوقع في حديث عقبة بن عامر عند أحمد: ((كما بين أيلة إلى الجُحفة)). وفي حديث جابر: ((كما بين صنعاء إلى المدينة))، وفي حديث ثوبان: ((ما بين عدن وعُمَّان)) ونحوه لابن حبَّان عن أبي أُمامة. وعَمَّان _بفتح المهملة وتشديد الميم على الأكثر، وحكي تخفيفها_ ونسبت إلى البلقاء، فقيل: عَمَّان البلقاء؛ لقربها منها.
          والبَلْقاء _بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها قاف بالمد_: بلدةٌ معروفةٌ من فلسطين. وقال العيني: البلقاء تُمَدُّ وتُقصَر. وقال الرَّشاطي: البلقاءُ من عمل دمشق. وعند عبد الرَّزَّاق في حديث ثوبان: ((ما بين بصرى إلى صنعاء، أو ما بين مكَّة إلى أيلة)) وبُصْرى _بضم الموحدة وسكون المهملة_، قال ياقوت: بلدٌ بالشَّام وهي قصبة حوران من أعمالِ دمشق من جهة الحجاز. وفي حديث عبد الله بن عَمرو عند أحمد: ((أبعد ما بين مكَّة وأيلة))، وفي لفظ: ((ما بين مكة وعمان))، وفي حديث حذيفة بن أَسِيد: ((ما بين صنعاء إلى بصرى)) ومثله لابن حبَّان في حديث عُتبة بن عبدٍ. وفي رواية الحسن عن أنسٍ عند أحمد: ((كما بين مكَّة إلى أيلة، أو بين صنعاء ومكَّة))، وفي حديث أبي سعيدٍ عند ابن أبي شيبة وابن ماجه: ((ما بين الكعبة إلى بيت المقدس)). وفي حديث عتبة بن عبد عند الطَّبراني: ((كما بين البيضاء إلى بصرى)) والبيضاء بالقرب من الرَّبَذة إلى البلد المعروف بين مكَّة والمدينة.
          وقال الرَّشاطي: البيضاء تأنيث أبيض تلقاء حمى الرَّبَذَة، وهذه المسافات كلُّها متقاربةٌ ترجع إلى نصف شهرٍ أو تزيد على ذلك قليلاً أو تنقص. وأقلُّ ما وقع في ذلك ما ورد في روايةٍ لمسلم في حديث ابن عمر ☻ من طريق محمد بن بشير عن عبيد الله بن عمر بسنده كما تقدَّم، وزاد: قال عبيد الله: فسألته فقال: قريتان بالشَّام بينهما مسيرة ثلاثة أيَّامٍ. ونحوه له في رواية عبد الله بن نُمير عن عبيد الله بن عمر ☻ ، لكن قال: ثلاث ليالٍ.
          وقد جمعَ العلماء بين هذا الاختلاف؛ فقال القاضي عياض: هذا / من اختلاف التَّقدير؛ لأنَّ ذلك لم يقع في حديثٍ واحدٍ، فيعدُّ اضطراباً من الرُّواة، وإنَّما [جاء] في أحاديث مختلفة عن غير واحدٍ من الصَّحابة سمعوه في مواطن مختلفة، وكان النَّبي صلعم يضربُ في كلٍّ منها مثلاً؛ لبُعد أقطار الأرض وسعتهِ بما يسنح له من العبارة، ويقرِّب ذلك للعلم ببعد ما بين البلاد النَّائية بعضها من بعضٍ، لا على إرادة المسافة المحققة. قال: فبهذا يجمع ما بين الألفاظ المختلفة من جهة المعنى. انتهى.
          قال الحافظ العسقلاني: وفيه نظرٌ من جهة إن ضرب المثل والتَّقدير إنَّما يكون فيما يتقارب، وأمَّا هذا الاختلاف المتباعد الَّذي يزيد تارةً على ثلاثين يوماً، وينقص أخرى إلى ثلاثة أيَّامٍ فلا.
          وقال القرطبي: ظنَّ بعض القاصرين أنَّ الاختلاف في قدر الحوض اضطرابٌ، وليس كذلك. ثمَّ نقل كلام القاضي عياض وزاد: وليس اختلافاً، بل كلُّها تفيدُ أنَّه كبيرٌ متَّسعٌ متباعد الجوانب. ثمَّ قال: ولعلَّ ذكره للجهات المختلفة بحسب من حضره ممَّن يعرف تلك الجهة، فيخاطب كلَّ قومٍ بالجهة الَّتي يعرفونها.
          وأجاب النَّووي: بأنَّه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفعُ المسافة الكثيرة، فالأكثر ثابتٌ بالحديث الصَّحيح فلا معارضةَ.
          وحاصله: أنَّه يشير إلى أنَّه أخبر أولاً بالمسافة اليسيرة، ثمَّ أُعلِم بالمسافة الطَّويلة فأخبر بها، كأنَّ الله تعالى تفضَّل عليه باتِّساعه شيئاً بعد شيءٍ، فيكون الاعتماد على ما يدلُّ على أطولها مسافة. وأمَّا قول بعضهم: إنَّ الاختلاف بتفاوت الطُّول والعرض؛ فمردودٌ بحديث ابن عمر ☻ : ((وزواياه سواء)). ووقع أيضاً في حديث النَّواس بن سمعان وجابر وأبي برزة وأبي ذرٍّ: ((طوله وعرضه سواء)). ومنهم من جمع بين الاختلافين الأوَّلين باختلاف السَّير البطيء، وهو سيرُ الأثقال، والسَّير السَّريع وهو سير الرَّاكب المخفِّ، وبحمل رواية أقلها وهو الثَّلاث / على سيرِ البريد فقد عُهِدَ منهم من يقطعُ مسافة شهر في ثلاثة أيَّامٍ ولو كان نادراً جداً.
          وقال ابنُ الأثير في «نهايته»: هما _يعني: جرباء وأذرح_: قريتان بالشَّام بينهما مسيرة ثلاثة أيَّام. وقال الصَّلاح العلائي: هذا غلطٌ، بل بينهما غلوة سهم وهما معروفتان بين القدس والكرك، ولا يصحُّ التَّقدير بالثَّلاث لمخالفتها الرِّوايات. لا سيَّما وقد قال الحافظُ ضياء الدِّين المقدسي في الجزء الَّذي جمعه في «الحوض»: إنَّ في سياق لفظها غلطاً؛ لاختصارٍ وقع في سياقه من بعض الرُّواة، ثمَّ ساقه من حديث أبي هريرة ☺. وأخرجه من «فوائد عبد الكريم بن الهيثم الدِّيرعاقولي» بسندٍ حسنٍ إلى أبي هريرة ☺ مرفوعاً في ذكر الحوض، فقال فيه: ((عرضه ما بينكُم وبين جرباءَ وأذرح)). قال الضِّياء: فيظهر بهذا أنَّه وقع في حديث ابن عمر ☻ حذف تقديره: كما بين مَقامي وبين جرباء وأذرح. وقال العلائي: ثبت القدر المحذوف عند الدَّارقطني وغيره بلفظ: ((ما بين المدينة وجرباء وأذرح)).
          قال الحافظُ العسقلاني: وهذا يوافق رواية أبي سعيدٍ عند ابن ماجه: ((كما بين الكعبة وبيت المقدس)). وقد وقع ذكر جَرْباء وأذرُح في حديثٍ آخر عند مسلم، وفيه: ووافى أهل جرباء وأذرح جزيتهم إلى رسول الله صلعم ، ذكره في غزوة تبوك.
          وهو يؤيِّد قول العلائي أنَّهما متقاربتان، ولو تقرَّر ذلك رجع جمع المختلف إلى أنَّه باختلاف السَّير البطيء والسَّير السَّريع، والله تعالى أعلم.
          والحديث قد أخرجهُ مسلم في «الفضائل».