نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: كيف الحشر

          ░45▒ (بابٌ: كَيْفَ الْحَشْرُ) وفي بعض النُّسخ: <باب الحشر> بدون لفظ: «كيف». قال القرطبيُّ: الحشر: الجمع، وهو أربعةٌ: حشران في الدُّنيا، وحشران في الآخرة، فالذي في الدُّنيا: هو المذكور في سورة الحشر في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2].
          قال الزُّهري: كانوا من سبطٍ لم يُصبهم الجلاء، وكان الله تعالى قد كتبه عليهم، فلولا ذلك لعذَّبهم في الدُّنيا، وكان أوَّل حشرٍ، حُشروا في الدُّنيا إلى الشَّام.
          والحشر الثَّاني: هو المذكور في أشراط السَّاعة، في الحديث الذي أخرجه مسلمٌ من حديث حذيفة بن أَسيد _بفتح الهمزة_ رفعه: ((إنَّ السَّاعة لن تقومَ حتَّى تروا قبلها عشر آياتٍ...)) فذكره. وفي حديث ابن عمر ☻ عند أحمد وأبي يَعلى مرفوعاً: ((تخرج نارٌ قبل يوم القيامة من حضرموت فتسوق / النَّاس...)) الحديث، وفيه: ((فما تأمرنا؟ قال: عليكم بالشَّام)). وفي لفظٍ آخر: ((ذلك نارٌ تخرج من [قعر] عدن تُرحِّل النَّاس إلى المحشر)). وفي حديث أنسٍ ☺ في مسائل عبد الله بن سلام لمَّا أسلم: ((أمَّا أوَّل أشراط السَّاعة: فنارٌ تحشر النَّاس من المشرق إلى المغرب)) [خ¦3329]. وفي حديث عبد الله بن عَمرو عند الحاكم رفعه: ((تُبعث نارٌ على أهل المشرقِ، فتحشرُهم إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيلُ معهم حيث قالوا، ويكون لها ما سقط منهم وتخلَّف، تسوقهم سوقَ الجملِ الكسير)).
          وقد أشكل الجمع بين هذه الأخبار.
          وقال الحافظ العَسقلاني: وظهر لي في وجه الجمع أنَّ كونها تخرج من قعر عدن لا يُنافي حشرها النَّاس من المشرق إلى المغرب، وذلك أنَّ ابتداء خروجها من قعر عدنٍ، فإذا خرجت انتشرت، وتسوق النَّاس من المشرق إلى المغرب، وفي الأرض كلِّها، والمراد بقوله: ((تحشر النَّاس من المشرق إلى المغرب)) إرادةَ تعميم الحشر، لا خصوص المشرق والمغرب، أو أنَّها بعد الانتشار أوَّل ما تحشر أهل المشرق. ويؤيِّد ذلك: أنَّ ابتداء الفتن من المشرق كما سيأتي تقريره في «كتاب الفتن» [خ¦7093]، وأمَّا جعل الغاية إلى المغرب؛ فلأنَّ الشَّام بالنِّسبة إلى المشرق مغربٌ، ويحتمل أن تكون النَّار في حديث أنسٍ ☺ كناية عن الفتن المنتشرة التي أثارت الشَّر العظيم، والتهبت كما تلتهب النَّار، وكان ابتداؤها من قِبَل المشرق حتَّى جرَّت معظمه، وانحشر النَّاس من جهةِ المشرق إلى الشَّام ومصر، وهما من جهِة المغرب، كما شوهد ذلك مراراً من المثل من عهد جنكيز خان ومن بعده، والنَّار التي في الحديث الآخر على حقيقتها، والله أعلم.
          والثَّالث: حشر الأموات من قبورهم وغيرها بعد البعث جميعاً إلى الموقف، قال الله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:47].
          والرَّابع: هو حشرهم إلى الجنَّة وإلى النَّار.
          وقال الحافظ العَسقلاني: والأوَّل ليس حشراً مستقلاً، فإنَّ المراد حشر كلِّ موجودٍ يومئذٍ، والأوَّل إنَّما وقع لفرقةٍ مخصوصةٍ، / وقد وقع نظيره مراراً تخرج طائفةٌ من بلدها بغير اختيارها إلى جهة الشَّام، كما وقع لبني أميَّة أوَّل ما تولَّى ابن الزُّبير الخلافة، فأخرجهم من المدينة إلى جهة الشَّام، ولم يَعُدَّ ذلك أحدٌ حشراً.