نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون}

          ░47▒ (بابُ: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:4]) أي: لا يستيقنون أنَّهم مبعوثون فيُسألون عمَّا فَعلوا في الدُّنيا، فإنَّ من ظنَّ ذلك لم يتجاسر على قبائح الأفعال ({لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:5]) يعني: يوم القيامة، وعِظَمه لعِظَم ما يكون فيه ({يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]) لفصل القضاء بين يدي ربِّهم، ويتجلَّى سبحانه وتعالى بجلاله وهيبته، وتظهر سطوات قهره على الجبَّارين.
          رُوي أنَّ ابن عمر ☻ قرأ سورة التَّطفيف حتَّى بلغ هذه بكى بكاءً شديداً، ولم يقرأ ما بعدها، و{يومَ} منصوب بـ{مبعوثون}.
          وقال الحافظ العَسقلاني: كأنَّه أشار بهذه الآية إلى ما أخرجه هنَّاد بن السَّري في «الزُّهد» من طريق عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عَمرو قال له رجلٌ: إنَّ أهل المدينة ليوفون الكيل، فقال: وما يمنعهم، وقد قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] إلى قوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] قال: إنَّ العَرَقَ ليبلغُ أنصاف آذانهم من هول يوم القيامة. وهذا لما لم يكن على شرطه أشار إليه، وأورد حديث ابن عمر المرفوع في معناه.
          وأصل البعث: إثارة الشَّيء عن خفاءٍ، وتحريكه عن سكونٍ، والمراد به هنا: إحياء الموتى، وخروجهم من قبورهم. وقال كعبٌ: يقفون ثلاثمائة عامٍ، وقال / مقاتل: وذلك إذا خرجوا من قبورهم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ، وسقطت الواو في رواية أبي ذرٍّ في تفسير قوله تعالى: ({وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166] الْوُصُلاَتُ) بضم الواو والصاد المهملة وفتحها وسكونها. وقال ابن التِّين: ضبطناه: بفتح الصاد وبضمها وسكونها (فِي الدُّنْيَا) وقال أبو عبيدة: الأسباب هي: الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدُّنيا، واحدتها: وصلة. وقال الكرمانيُّ: الوصلة: هي الاتِّصال، وكلُّ ما اتصل بشيءٍ فما بينهما وصلة، وهذا الأثرُ لم يُظفَر به عن ابن عبَّاس بهذا اللَّفظ، وهو بالمعنى، وكذا أخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نَجيح عن مجاهدٍ، والطَّبري من طريق العَوْفي عن ابن عبَّاس، قال: ((تقطَّعت بهم المنازل)) ومن طريق الرَّبيع بن أنس مثله.
          وأخرجه ابنُ أبي حاتم من وجهٍ آخر عن الرَّبيع عن أبي العالية قال: يعني: أسباب النَّدامة. وفي رواية الطَّبري من طريق ابنِ جريج عن ابن عبَّاس ☻ ، قال: الأسبابُ: الأرحام، وهذا منقطعٌ. ولابن أبي حاتم من طريق الضَّحاك قال: انقطعتْ بهم الأرحام، وتفرَّقت بهم المنازل في النَّار. وورد بلفظ: التَّواصل، والمواصلة، أخرجه الثَّلاثة المذكورون أيضاً من طريق عبيد المُكْتِب عن مجاهد قال: تواصلهم في الدُّنيا. وللطَّبري من طريق ابن جُريج عن مجاهدٍ قال: تواصلٌ كان بينهم بالمودة في الدُّنيا. وله من طريق سعيدٍ، ولعبد من طريق شيبان كلاهما عن قتادة قال: الأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدُّنيا يتواصلون بها ويتحابُّون، فصارت عداوةً يوم القيامة.
          وللطَّبري من طريق معمر عن قتادة قال: هو الوصلُ الذي كان بينهم. ولعبدٍ من طريق السُّدي عن أبي صالح قال: الأعمال، وهو عند السُّدي من قوله. قال الطَّبري: الأسباب: جمع سبب، وهو كلُّ ما يتسبَّب به إلى طُلْبَةٍ، فيقال للحبل: سببٌ؛ لأنَّه يُتوصَّل به إلى الحاجة التي يتعلَّق به إليها، وللطَّريق سببٌ للتَّسبب بركوبه إلى ما يقصد، والمصاهرة سببٌ للحرمة، / والوسيلة سببٌ للوصول بها إلى الحاجة.
          وقال الرَّاغب: السَّبب: الحبل، وسُمِّي كلُّ ما يُتوصَّل به إلى شيءٍ سبباً، ومنه: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر:36-37] أي: أصل الأسباب الحادثة في السَّماء، فأتوصَّل بها إلى معرفة ما يدَّعيه موسى ◙، ويُسمَّى: العمامة والخمار والثَّوب الطَّويل سبباً تشبيهاً بالحبل، وكذا منهج الطَّريق لشبهه بالحبل، وبالثَّوب الممدود أيضاً.