نجاح القاري لصحيح البخاري

باب في الأمل وطوله

          ░4▒ (بابٌ) بالتَّنوين (فِي الأَمَلِ وَطُولِهِ) / الأَمَل _بفتحتين_ هو الرَّجاء فيما تحبُّه النَّفس من طول عُمر ٍوزيادة غنىً، يقال: أَمَّلَ خيرَه يأمل أملاً، وكذلك التَّأميل ومعناه قريب من التَّمنِّي، وقيل: الفرق بينهما أنَّ الأملَ ما تقدَّم له سببٌ والتَّمني بخلافهِ، وقيل: لا ينفكُّ الإنسان من أملٍ، فإن فاتَهُ ما أمَّله عوَّل على التَّمنِّي، ويقال: الأملُ إرادة الشَّخص تحصيلُ شيءٍ يمكنُ حصوله فإذا فاته تمنَّاه والرَّجاء تعليق القلب بمحبوبٍ ليحصل في المستقبل، والفرق بين الرَّجاء والتَّمنِّي أنَّ التَّمني يورث صاحبه الكسل ولا يسلك طريق الجهد والجدِّ، ويعكسه صاحب الرَّجاء، فالرَّجاء، محمودٌ والتَّمني مذمومٌ؛ لأنَّه يُخْلِقُ العقلَ ويفسد الدِّين ويطرد القناعة.
          وقال ابن الجوزي: الأمل مذمومٌ لجميع النَّاس إلَّا للعلماء فلولا أملهم وطوله لَما صنَّفوا ولا ألفوا، وقال الشَّاعر:
وَآمَالُ الرِّجَالِ لَهُم فُضُوحُ                     سِوَى أَمَلِ المُصنِّفِ ذِي العُلُومِ
          وقال غيره: الأمل مطبوعٌ في جميع بني آدم، كما سيأتي في الحديث الَّذي في الباب بعده: ((لا يزالُ قلبُ الكبير شابًّا في اثنتين حبُّ الدُّنيا وطولُ الأمل)) [خ¦6420]، وفي الأمل سرٌّ لطيفٌ؛ لأنَّه لولا الأمل ما تهنَّى أحدٌ بعيشٍ ولا طابتْ نفسه أن يشرعَ في عملٍ من أعمال الدُّنيا، وإنَّما المذموم منه الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمرِ الآخرة، فمَن سَلِم من ذلك لم يكلَّف بإزالته، وورد في ذمِّ الاسترسال مع الأمل حديث أنسٍ ☺ رفعه: ((أربعةٌ من الشَّقاء: جمودُ العين، وقسوةُ القلب، وطولُ الأمل، والحرص على الدُّنيا)) أخرجه البزَّار.
          وعن عبد الله بن عمرٍو رفعه: ((صلاحُ أوَّل هذه الأمَّة بالزَّهادة واليقين، وهلاك آخرها بالبخلِ والأمل)) أخرجه الطَّبراني وابن أبي الدُّنيا.
          وقيل: إنَّ قصر الأمل حقيقة الزُّهد؛ لأنَّ من قَصُر أمله زهد، ويتولَّد من طولِ الأمل الكسلُ عن الطَّاعة والتَّسويف بالتَّوبة والرَّغبة في الدُّنيا والنِّسيان للآخرة والقسوة في القلب، لأنَّ رقَّته وصفاءه إنَّما يقع بتذكير الموت والقبر والثَّواب والعقاب وأهوالِ القيامة؛ كما قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16]. وقيل: من قصُر أملُه / قلَّ همُّه وتنوَّر قلبه؛ لأنَّه إذا استحضرَ الموت اجتهدَ في الطَّاعة، وقلَّ همُّه، ورضيَ بالقليل.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ زُحْزِحَ} [آل عمران:185]) أي: أُبعد ({عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}) أي: ظفرَ بالخير ونجا، والمراد أنَّه قد حصلَ له الفوز المطلق، وقيل: الفوز: نيل المحبوب، والبعد عن المكروه ({وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}) كذا وقع في رواية كريمة وغيرها، وفي رواية النَّسفي: <إلى قوله: {فَقَدْ فَازَ} الآية>، وفي رواية أبي ذرٍّ: <إلى قوله: {فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]> والمطلوب هنا قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] لأنَّه إشارةٌ إلى أنَّ متعلِّق الأمل ليس بشيءٍ؛ لأنَّه متاعُ الغرور.
          المتاع: ما يتمتَّع به وينتفعُ، والغرور يجوز أن يكون مصدراً من قوله: غررت فلاناً غروراً، شبَّه الدُّنيا بالمتاع الَّذي يدلَّسُ به على المستام، ويَغرُّه حتَّى يشتريه، ثمَّ يتبيَّن له فسادُه ورداءته، والشَّيطان هو المدلِّس الغرور.
          وقد قرأ عبد الله بفتح الغين، وفسِّر بالشَّيطان، ويجوز أن يكون فعولاً بمعنى مفعول؛ أي: متاع الغرور، وهو المخدوعُ وأصل الغرر: الخدع. قال سعيدُ بن جبير: هذا في حقٍّ من آثر الدُّنيا على الآخرة، أمَّا من طلب الدُّنيا للآخرة، فإنَّها نعم المتاع، كما روي: ((نعم المال الصَّالح للرَّجل الصَّالح)). وعن الحسن: كخضرة النَّبات ولعب البنات، لا حاصلَ لها؛ فينبغي للإنسان أن يأخذَ من هذا المتاع لطاعةِ الله تعالى ما استطاعَ.
          ({بِمُزَحْزِحِهِ} [البقرة:96]: بِمُبَاعِدِهِ) بكسر العين، وقع هذا في رواية النَّسفي، وكذا في رواية أبي ذرٍّ عن المستملي والكُشميهني، وقد وقع في بعض النُّسخ بعد أثرِ علي ☺: <قال أبو عبد الله: { بِمُزَحْزِحِهِ} بمباعِده>.
          والمراد: أنَّ معنى قوله: {زُحْزِحَ} في هذه الآية بوعدٍ، وأصل الزَّحزحة: الإزالة، ومن أُزيل عن الشَّيء فقد بُوعدَ عنه. وقال الكرمانيُّ: ومناسبة هذه الآية للتَّرجمة أنَّ في أوَّل الآية: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، وفي آخرها: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، وأنَّ قوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ} مناسبٌ لقوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] وفي تلك الآية: {يود أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96].
          (وَقَوْلِهِ) تعالى: ({ذَرْهُمْ} [الحجر:3]) الأمر فيه للتَّهديد والإهانة؛ أي: اقطعْ طمعك من ارعوائهم؛ أي: المشركين / ودع النَّهي عمَّا هم عليه بالتَّذكرة والنَّصيحة وخَلِّهم ({يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر:3]) بدنياهم ولذَّاتها إلى أجلهم الَّذي أجِّل لهم، فهي خَلاقُهم، ولا خلاق لهم في الآخرة، وفيه زجرٌ عن الانهماك في ملاذِ الدُّنيا ({وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} [الحجر:3]) أي: يشغلهم الأملُ عن عمل الآخرة، وعن الأخذِ بحظِّهم من الإيمان والطَّاعة ({فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]) إذا وردوا القيامة وذاقوا وبال صنيعهم، وفيه تنبيهٌ على إيثار التَّلذُّذ والتَّنعُّم، وما يؤدِّي إليه طول الأملِ ليس من أخلاقِ المؤمنين، وهذا تهديدٌ ووعيدٌ.
          وقال بعضُ العلماء: { ذَرْهُمْ} تهديدٌ و{سَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديداً آخرَ، فمتى يهنأُ العيش بين تهديدين، والآية نسختها آيةُ القتال. وساقَ الآية كريمةُ وغيرها إلى: <{يَعْلَمُونَ}>، وسقط في رواية أبي ذرٍّ: <{وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} إلى آخره> وقال بعد قوله: {وَيَتَمَتَّعُوا}: <الآية>.
          (وَقَالَ عَلِيٌّ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <عليُّ بن أبي طالبٍ> ☺ (ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا) حال كونها (مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ) حال كونها (مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) أي: من الآخرة والدُّنيا، وفي رواية أبي ذرٍّ عن المستملي: <منها> (بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ) قال الكرمانيُّ: فإن قلت: اليوم ليس عملاً بل فيه العملُ، ولا يمكن تقدير «في» وإلَّا وجب نصب «عملٌ». قلت: جعله نفس العمل مبالغةً كقولهم: أبو حنيفة فقه ونهاره صائمٌ.
          (وَلاَ حِسَابَ) فيه بالفتح بغير تنوينٍ، ويجوز الرَّفع منوناً؛ أي: ليس في اليوم حسابٌ، فعلى هذا يكون اسم «إنَّ» ضمير الشَّأن حذف، ومثله شاذٌّ عند النُّحاة، وهو حجَّةٌ عليهم (وَغَداً حِسَابٌ) بالرفع (وَلاَ عَمَلَ) فيه بالنصب، ويجوز الرفع أيضاً، وهذا قطعةٌ من أثر عليٍّ ☺ جاء عنه موقوفاً ومرفوعاً، وفي أوَّله شيءٌ يطابق التَّرجمة صريحاً، فعند ابنِ أبي شيبة في «المصنَّف»، وابن المبارك في «الزهد» من طرق عن إسماعيل بن أبي خالدٍ وزُبيد الأيامِي عن رجلٍ من بني عامرٍ، وسُمِّي في روايةٍ لابن أبي شيبة: مهاجرٍ العامريِّ.
          وكذا في «الحلية» لأبي نُعيمٍ من طريق أبي مريم عن زُبيد عن مهاجر بن عمير، قال: قال علي ☺: ((إنَّ أخوف ما أخافُ عليكم / اتِّباع الهوى، وطولُ الأمل، فأمَّا اتَّباع الهوى فيصدُّ عن الحقِّ، وأمَّا طول الأمل فيُنسي الآخرة، ألا وإنَّ الدُّنيا ارتحلت مُدبرةً...))، الحديث كالَّذي في الأصل سواء.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: ومهاجر المذكور هو العامريُّ المبهم قبله وما عرفت حاله، وقد جاء مرفوعاً أخرجه ابنُ أبي الدُّنيا في كتاب «قصر الأمل» من رواية اليمان بن حذيفة عن عليِّ بن أبي حفصة مولى علي عن عليِّ بن أبي طالبٍ ☺: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((إنَّ أشدَّ ما أتخوَّف عليكم خصلتان...)) فذكر معناه، واليمان وشيخُه لا يعرفان.
          وجاء من حديث جابر ☺ أخرجه أبو عبد الله بن منده من طريق المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر ☺ مرفوعاً والمنكدر ضعيفٌ. وتابعه عليُّ بن أبي عليٍّ الذَّهبيُّ عن ابن المنكدر بتمامه، وهو ضعيفٌ أيضاً. وفي بعض طرق هذا الحديث: ((فاتِّباع الهوى يصرفُ بقلوبكم عن الحقِّ، وطول الأمل يصرف همَّكم إلى الدُّنيا)).
          ومن كلام عليٍّ: أخذ بعض الحكماء قوله: الدُّنيا مُدبرةٌ والآخرة مقبلةٌ، فعجبٌ لمن يقبلُ على المدبرة، ويُدبر عن المقبلة.