نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: في الحوض

          ░53▒ (بابٌ) بالتنوين (فِي الْحَوْضِ) أي: الَّذي لنبيِّنا صلعم في الآخرة، وفي بعض النُّسخ: <كتابٌ في الحوض> وقبله البسملة. في «الصَّحاح»: الحوض: واحد الحياضِ والأحواضِ، وحضت اتَّخذتُ حوضاً، واستحوضَ الماء: اجتمع، والمحوَّض _بالتشديد_ شيءٌ، كالحوضِ يجعله للنَّخلة تشرب منه.
          وقال ابنُ قُرْقول: الحوضُ: حيث تستقرُّ المياه؛ أي: تجتمع لتشرب فيها الإبل، والأحاديث التي وردت في حوض نبيِّنا صلعم كثيرةٌ بحيث صارت متواترةً من جهة المعنى، فالإيمان به واجبٌ، وهو مخلوق اليوم. واختلف في حوضه صلعم هل هو قبل الصِّراط أو بعده؟ قال أبو الحسن القابسي: الصَّحيح: أنَّ الحوض قبل. وقال القرطبي في «تذكرته»: والمعنى يقتضيه فإنَّ النَّاس يخرجون عطاشاً من قبورهم. واستدلَّ بما في البخاري من حديث أبي هريرة ☺ مرفوعاً: ((بينا أنا قائمٌ على الحوض إذا زُمرة حتَّى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ، فقلت: أين؟ قال: إلى النَّار)) الحديث [خ¦6587].
          قال القرطبي: فهذا الحديث يدلُّ على أنَّ الحوض يكون في الموقف قبل الصِّراط؛ لأنَّ الصراط إنَّما هو جسرٌ على جهنَّم ممدودٌ يُجاز عليه، فمن جازه سَلِم من النَّار. انتهى.
          وقال آخرون: إنَّما هو بعد الصِّراط، وصنيعُ البخاري في إيراده لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشَّفاعة بعد نصب الصِّراط مشعرٌ بذلك. وقد أخرج أحمد والترمذيُّ من طريق النَّضر بن أنسٍ عن أنس ☺ قال: سألت رسول الله صلعم أن يشفعَ لي فقال: ((أنا فاعلٌ، فقلت: أين أطلبك؟ فقال: اطلبني أوَّل ما تطلبني على الصِّراط، قلت: فإن لم ألقكَ، قال: أنا عندَ الميزان، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عندَ الحوض)).
          ويؤيِّده ظاهر قوله صلعم في حديث الحوض: ((من يشرب منهُ لم يظمأ أبداً)) [خ¦6583] لأنَّه يدلُّ على أنَّ الشُّرب منه يكون بعد الحساب والنَّجاة من النَّار؛ لأنَّ ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذَّب بالنَّار، كذا قال القاضي عياض.
          وأمَّا ما استُدلَّ به على القَبْليَّة من حديث أبي هريرة ☺، فيحمل على أنَّهم يقربون من الحوض بحيث يرونه، فيُدفعون في النَّار قبل أن يخلصوا من بقيَّة الصِّراط. /
          وأمَّا قول صاحب «التذكرة»: والصَّحيح أنَّ للنَّبي صلعم حوضين أحدهما في الموقف قبل الصِّراط، والآخر: داخل الجنَّة، وكلٌّ منهما يسمَّى كوثراً.
          فقد تعقَّبه الحافظ العسقلاني: بأنَّ الكوثر نهرٌ داخل الجنَّة وماؤه يصبُّ في الحوض، ويطلقُ على الحوض كوثرٌ؛ لكونه يُمَدُّ منه، فغاية ما يُؤخذ من كلام القرطبي: أنَّ الحوضَ يكون قبل الصِّراط، وأنَّ النَّاس يَرِدُونَ عطاشاً، فيَرِدُ المؤمنون الحوضَ ويتساقط الكفَّار في النَّار بعد أن يقولوا: ربَّنا عطشنا، فترفع لهم جهنَّم كأنَّها سرابٌ، فيقال: ألا تَرِدون فيظنُّونها ماءً فيتساقطون فيها.
          وقد أخرج مسلمٌ من حديث أبي ذرٍّ ☺: إنَّ الحوضَ يَشخبُ فيه ميزابان من الجنَّة، وله شاهدٌ من حديث ثوبان ☺ وهو حجَّةٌ على القرطبي لا له؛ لأنَّه قد تقدَّم أنَّ الصِّراط جسر جهنَّم، وإنَّه بين الموقف والجنَّة، فلو كان الحوض دونه لحالت النَّار بين الماء الَّذي يصبُّ من الكوثر في الحوض.
          وظاهر الحديث: أنَّ الحوض بجانب الجنَّة؛ لينصبَّ فيه الماء من النَّهر الَّذي داخلها، وقد اشتهر اختصاص نبيِّنا صلعم بالحوض، لكن أخرج التِّرمذي من حديث سمرة ☺ رفعه: ((إنَّ لكلِّ نبيٍّ حوضاً)). وأشار إلى أنَّه اختلف في وصله وإرساله وأنَّ المرسل أصحُّ. أمَّا المرسل أخرجه ابنُ أبي الدُّنيا بسندٍ صحيحٍ عن الحسن قال: قال رسول الله صلعم ((إنَّ لكلِّ نبيٍّ حوضاً وهو قائمٌ على حوضه بيده عصاً يدعو من عرف من أمَّته ألا وإنَّهم يتباهون أيُّهم أكثر تبعاً، وإنِّي لأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً)).
          وأخرجه الطَّبراني من وجهٍ عن سَمُرة موصولاً مرفوعاً مثله وفي سنده لينٌ، وأخرج ابنُ أبي الدنيا أيضاً من حديث أبي سعيدٍ مرفوعاً: ((وكلُّ نبيٍّ يدعو أمَّته، ولكلِّ نبيٍّ حوضٌ، فمنهم من يأتيه الفئام، ومنهم من يأتيه العصبة، / ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحدٌ، وإنِّي لأكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة)) وفي إسناده لينٌ.
          وإن ثبت فالمختصُّ به نبيُّنا صلعم الكوثر الَّذي يُصَبُّ من مائه في حوضه، فإنَّه لم ينقل نظيره لغيره، ولذا امتنَّ الله تعالى به عليه في التَّنزيل.
          هذا وقال القرطبي في «المفهم» تبعاً للقاضي عياض: ممَّا يجب على كلِّ مكلَّف أن يعلمَه ويصدِّق به إنَّ الله سبحانه وتعالى قد خصَّ نبيَّنا صلعم بالحوض المصرَّح به، وصفته وشرابه في الأحاديث الصَّحيحة الشَّهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، إذ روى ذلك عن النَّبي صلعم من الصَّحابة ما ينيف على الثَّلاثين، منهم في «الصحيحين» ما ينيف على العشرين، وفي غيرهما: بقيَّة ذلك ممَّا صحَّ نقله، واشتهر رواته، ثمَّ رواه عن الصَّحابة المذكورين من التَّابعين أمثالهم، ومن بعدهم أضعاف أضعافهم، وهلمَّ جرا.
          وأجمع على إثباته السَّلف وأهل السُّنَّة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفةٌ من المبتدعة، وأحالوه عن ظاهر، وغلوا في تأويله من غير استحالةٍ عقليَّةٍ ولا عاديَّةٍ تُلزم من حمله على ظاهرهِ وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويلهِ، فخرق من حرَّفه إجماع السَّلف وأهل السُّنة، وفارق مذهب أئمَّة الخلف. انتهى.
          وأنكرهُ الخوارجُ والمعتزلة خذلهم الله (1)، وممَّن كان ينكرهُ عبيد الله بن زياد أحد أمراء العراق لمعاوية وولده يزيد؛ فعند أبي داود من طريق عبد الله بن سلام بن أبي حازم قال: شهدتُ أبا بَرْزة الأسلمي دخل على عبيد الله بن زيادٍ فحدَّثني فلان، وكان في السِّماط فذكر قصَّةً فيها: أنَّ ابن زيادة ذكر الحوض قال: سمعت رسول الله صلعم يذكر فيه شيئاً، فقال أبو برزة: نعم لا مرَّةً ولا مرَّتين، ولا ثلاثاً ولا أربعاً ولا خمساً فمن كذَّب به فلا سقاهُ الله منه.
          وأخرج البيهقي من طريق يزيد بن حبَّان التَّيمي: شهدت زيد بن أرقم ☺ وبعث إليه ابن زيادٍ فقال: ما أحاديث تبلغني / أنَّك تقول: أنَّ لرسول الله صلعم حوضاً في الجنَّة؟ قال: حدَّثني بذلك رسول الله صلعم .
          وعند أحمد من طريق عبد الله بن يزيد عن أبي سَبْرة _بفتح المهملة وسكون الموحدة_ الهُذلي أنَّه قال: قال عبد الله بن زيادٍ ما أصدق بالحوض، فقال له أبو سبرة: بعثني أبوك في مالٍ إلى معاوية، ولقيني عبد الله بن عمرو ☻ فحدَّثني وكتبته بيدي من فِيْه أنَّه سمع رسول الله صلعم يقول: ((موعدكم حوضي)) فقال ابن زياد: أشهد أنَّ الحوض حقٌّ.
          وعند أبي يَعلى من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابتٍ عن أنس ☺ قال: دخلتُ على ابن زيادٍ وهم يذكرون الحوضَ فقال: هذا أنسٌ، فقلت: لقد كان عجائز المدينة كثيراً ما يسألنَ ربَّهنَّ أن يسقيهنَّ من حوض نبيهنَّ، وسنده صحيحٌ.
          وأخرج البيهقي بسندٍ صحيحٍ عن حميد عن أنس ☺ نحوه، وفيه: ما حسبتُ أن أعيش حتَّى أرى مثلكم ينكرُ الحوض، وقد رويتُ أحاديث الحوضِ عن أكثر من خمسين صحابيًّا (2) ذكر أكثره الحافظ العسقلاني والعيني.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]) وهو فوعل من الكثرة، وهو المفرطُ الكثرة، واختلف في تفسيره؛ فقيل: نهرٌ في الجنَّة، وهو المشهور المستفيض عند السَّلف والخلف، وقيل: أولاده صلعم ؛ لأنَّ السُّورة نزلت ردًّا على من عابه بعدمِ الأولاد، وقيل: الخير الكثير، وقيل: غير ذلك. وقال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} بلفظ الماضي ولم يقل: سنُعطيك؛ ليدلَّ على أنَّ هذا الإعطاء حصل في الزَّمان الماضي، ولم يقل {أعطيناك} مكتفياً بنون العظمة ليشعر بتوليته تعالى الإعطاء على وجه الاختصاص به دون غيره، وفي ذلك من الفخامةِ المبهجة ما فيه.
          (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) هو: ابنُ عاصم المازني (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : اصْبِرُوا) أي: على ما ترون بعدي من الأثرة (حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ) هو طرفٌ من حديثٍ طويل، وصله المؤلف في «غزوة حنين» [خ¦4330]، وفيه كلام الأنصار لمَّا قسِّمت غنائم حنينٍ في غيرهم، وفيه: ((إنكم سترون بعدي / أثرة فاصبروا)) الحديث.


[1] لو عبر المؤلف بقوله: هداهم الله، أصلحهم الله تعالى لكان في ذلك خير، والله تعالى أعلم.
[2] قال المؤلف قبل صفحة إن ما ينوف عن ثلاثين صحابياً رووا حديث الحوض فتأمل.