نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: المكثرون هم المقلون

          ░13▒ (باب: الْمُكْثِرُونَ هُمُ الْمُقِلُّونَ) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكُشميهني: <الأقلُّون>، ووقع في رواية أبي ذرٍّ: <المكثرون هم الأخسرون>، وهو بمعناه بناءً على أنَّ المراد بالقلَّة في الحديث: قلَّة الثَّواب، وكلُّ مَن قلَّ ثوابه فهو خاسرٌ بالنِّسبة إلى من كثر ثوابه، وذلك لأنَّ المعنى المكثرون من المال هم المقلُّون في الثَّواب؛ يعني: كثرة المال تؤول بصاحبه إلى الإقلالِ من الحسنات يوم القيامة إذا لم ينفقه في طاعة الله تعالى، فإذا أنفقهُ فيها كان غنيًّا بالحسنات يوم القيامةِ.
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15]) واختلف في الآية فقيل: هي على عمومها في الكفَّار، وفيمن يُرائي بعمله من المسلمين، وقد استشهد بها معاوية ☺ لصحَّة الحديث الَّذي حدَّث به أبو هريرة ☺ مرفوعاً في المجاهد، والغازي، والمتصدِّق، وقوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} [النور:11] إنَّما عَمِلْتَ ليُقال فقد قيل، فبكى معاوية لمَّا سمع هذا الحديث، ثمَّ تلا هذه الآية، أخرجه التِّرمذي مطوَّلاً وأصله عند مسلم، وقال سعيد بن جبيرٍ: الآيةُ فيمن عمل عملاً يريد به غيرَ الله جُوزِي عليه في الدُّنيا.
          وعن أنسٍ ☺: ((هم اليهود والنَّصارى إن أعطوا سائلاً، ووصلوا رحماً عجلَّ لهم جزاء ذلك بتوسعةٍ في الرِّزق، وصحَّةٍ في البدن))، وقيل: هم الَّذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلعم فأسهم له من الغنائم.
          وقال الضَّحاك: يعني المشركين إذا عملوا عملاً جُوزُوا عليه في الدُّنيا، وقيل: بل هي في حقِّ الكفَّار كلِّهم خاصَّةً بدليل الحصر في قوله في الآية: / {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:16] والمؤمن في الجملة مآله إلى الجنَّة بالشَّفاعة، أو مُطلق العفو والوعيد في الآية بالنَّار، وإحباط العمل وبطلانه إنَّما هو للكافر.
          وأُجيب عن ذلك: بأنَّ الوعيد بالنَّسبة إلى ذلك العمل الَّذي وقع الرِّياء فيه فقط فيُجازى فاعله بذلك إلَّا أن يعفوَ الله عنه، وليس المرادُ إحباط جميع أعمالهِ الصَّالحة الَّتي لم يقعْ فيها رياءٌ.
          والحاصل: أنَّ من أرادَ بعملهِ ثواب الدُّنيا عجِّل له، وجوزِيَ في الآخرة بالعذابِ لتجريدِهِ قصْدَه إلى الدُّنيا، وإعراضهِ عن الآخرة، وقيل: نزلتْ في المجاهدين خاصَّةً وهو ضعيفٌ، وعلى تقدير ثبوتهِ فعمومها شاملٌ لكلِّ امرئ.
          ({نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15]) أي: نوصل إليهم أجور أعمالهم وافيةً كاملةً من غير بخسٍ في الدُّنيا، و{نُوَفِّ} من التَّوفية، وقُرء: (▬يُوفِّ↨) بالياء على أنَّ الفعلَ لله، وبالياء على البناء للمفعول، و«نوفي» بالتخفيف وإثبات الياء ({وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}) من البخسِ وهو النَّقص، وعموم قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15] مخصوصٌ بمن لم يُقدِّر الله له ذلك لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] فعلى هذا التَّقييد يحمل ذلك المطلق، وكذا تقييد مطلق قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].
          وبهذا يندفعُ إشكالُ من قال: قد يوجد بعض الكفَّار مقتَّراً عليه في الدُّنيا غير موسَّعٍ عليه من المال، أو من الصِّحَّة، أو من طولِ العمر، بل قد يوجدُ من هو مبخوس الحظِّ من جميع ذلك، كما قيل في حقِّه: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
          ({أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} [هود:16]) وحبِطَ ما صنعوا في الآخرة أو صنيعهم؛ أي: لم يكن لهم ثوابٌ؛ لأنَّهم لم يريدوا به الآخرة، وإنَّما أرادوا به الدُّنيا، وقد وفَّى لهم ما أرادوا.
          ({وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]) أي: كان عملهم باطلاً في نفسه؛ لأنَّه لم يعمل لغرضٍ صحيحٍ والعمل الباطلُ ليس له ثوابٌ، وسيقت الآيتان / بتمامهما في رواية الأَصيليِّ وكريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15] الآيتان>، وفي رواية أبي زيدٍ بعد قوله: {وَزِينَتَهَا}: <{نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الآية> ومثله للإسماعيليِّ، لكن قال: إلى قوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
          ومناسبة ذكر الآية لحديث الباب: أنَّ في الحديث إشارةٌ إلى أنَّ الوعيد الَّذي فيها محمولٌ على التَّأقيت في حقِّ من وقع له ذلك من المسلمين لا على التَّأبيد؛ لدَلالة الحديث على أنَّ مرتكبَ جنس الكبيرة من المسلمين يدخلُ الجنَّة، وليس فيه ما ينفي أنَّه يعذَّب قبل ذلك كما أنَّه ليس في الآية ما ينفي أنَّه يدخل الجنَّة بعد التَّعذيب على معصية الرِّياء.