نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الرجاء مع الخوف

          ░19▒ (بابُ) استحباب (الرَّجَاءِ مَعَ الْخَوْفِ) فلا يقطع النَّظر في الرَّجاء عن الخوف، ولا في الخوف عن الرَّجاء لئلَّا يفضي في الأوَّل إلى المكر، وفي الثَّاني إلى القنوط، وكلٌّ منهما مذمومٌ، والمقصود من الرَّجاء أنَّ من وقع منه تقصيرٌ، فليحسن بالله ظنَّه، ويرجو أن يمحو عنه ذنبه.
          وكذا من وقع منه طاعةٌ يرجو قبولها، وأمَّا من انهمك على المعصية راجياً عدم المؤاخذة بغير ندمٍ ولا إقلاعٍ، فهذا غرورٌ في غرور. وما أحسن قول أبي عثمان الحربيِّ(1) : من علامة السَّعادة أن تطيعَ، وتخاف أن لا تُقبل، ومن علامة الشَّقاء أن تعصيَ، وترجو أن تنجو.
          وقد أخرج ابن ماجه من طريق عبد الرَّحمن بن سعيد بن وهبٍ، عن أبيه عن عائشة ♦ قلت: يا رسول الله {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] أهو الَّذي يسرق ويزني؟ قال: ((لا، ولكنَّه الَّذي يصوم ويتصدَّق ويصلِّي ويخاف أن لا يُقبل منه)).
          وعن أبي عليٍّ الرَّوذباري أنَّه قال: الخوف والرَّجاء كجناحي الطَّائر إذا استويا استوى الطَّير وتمَّ طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النَّقص، وإذا ذهبا صار الطَّائر في حدِّ الموت، انتهى.
          فمتى استقام العبد في أحواله استقامَ في سلوكه في طاعاته باعتدال رجائهِ وخوفه، ومتى قصَّر في طاعاته ضعُف رجاؤه ودنا منه الاختلال، ومن قلَّ خوفه وحذره من مفسدات الأعمال تعرَّض للهلاك، ومتى عُدِم الرَّجاء والخوف تمكَّن منه عدوه، وبعد عن حزب من حفظه ربُّه وتولَّاه وبذلك عُلم وجه التَّشبيه بينهما وبين جناحي الطَّائر.
          وقال بعضهم: المؤمن يتردَّد بين الخوف والرَّجاء لخفاء السَّابقة، وذلك لأنَّه تارةً ينظر إلى عيوب نفسه فيخاف، وتارةً ينظر إلى كرم الله ╡ فيرجو. وقيل: يجب أن يزيد خوف العالم على رجائه؛ لأنَّ خوفه يزجره عن المناهي ويحمله على الأوامرِ، ويجب أن يعتدل خوف العارف ورجاؤه؛ لأنَّ عينه ممتدَّة إلى السَّابقة، ورجاء المحبِّ / يجب أن يزيد على خوفه لأنَّه على بساط الجمال.
          والرَّجاء _بالمدِّ_: هو تعليق القلب بمحبوب من جلب نفعٍ أو دفع ضررٍ سيحصل في المستقبل، وذلك بأن يغلب على القلب الظَّن بحصوله في المستقبل، والفرق بينه وبين التَّمنِّي وهو طلب ما لا مطمع في وقوعه، كليتَ الشَّباب يعود، أنَّ التَّمني يُصاحبه الكسل، ولا يسلك صاحبه طريق الجهد والجدِّ في الطَّاعات، وبعكسه صاحب الرَّجاء، فإنَّه يسلك طريق ذلك، فالتَّمنِّي معلولٌ والرَّجاء محمودٌ، ومن علامته حسن الطَّاعة.
          وقال حجَّة الإسلام: الرَّاجي مَنْ بثَّ بذر الإيمان وسقاه بماء الطَّاعات، ونقَّى القلب عن شوك المهلكات، وانتظر من فضل الله أن ينجيه من الآفات، فأمَّا المنهمك في الشَّهوات منتظراً للمغفرة فاسمُ الغرور به أليقُ وعليه أصدقُ، وأمَّا الخوف وهو فزعُ القلب من مكروهٍ يناله أو محبوب يفوتهُ، وسببه تفكُّر العبد في المخلوقات كتفكُّره في تقصيره وإهماله، وقلَّة مراقبته، وكتفكُّره فيما ذكره الله في كتابه من إهلاك من خالفه، وما أعدَّ له في الآخرة.
          وقال القشيريُّ: الخوف معنى متعلِّقه في المستقبل؛ لأنَّ العبد إنَّما يخاف أن يحلَّ به مكروه، أو يفوته محبوبٌ، ولا يكون هذا إلَّا لشيءٍ في المستقبل، انتهى.
          وهذا كلُّه متَّفقٌ على استحبابه في حال الصِّحة. وقيل: الأولى أن يكون الخوف في الصِّحة أكثر، وفي المرض عكسه، وأمَّا عند الإشراف على الموت فاستحبَّ قوم الاقتصار على الرَّجاء لِما يتضمَّن من الافتقار إلى الله تعالى، ولأنَّ المحذورَ من ترك الخوف قد تعذَّر، فيتعيَّن حسن الظَّنِّ بالله تعالى لرجاء عفوه ومغفرته، ويؤيِّده حديث: ((لا يموتنَّ أحدكم إلَّا وهو يحسنُ الظَّنَّ بالله))، وسيأتي الكلام عليه في «كتاب التَّوحيد» [خ¦7108] إن شاء الله تعالى.
          وقال آخرون: لا يهمل جانب الخوف أصلاً بحيث يجزم بأنَّه آمن، ويؤيِّده ما أخرج التِّرمذي عن أنس ☺: أنَّ النَّبيَّ صلعم دخل على شابٍّ وهو في الموت، فقال له: ((كيف تجدك؟)) قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلعم : / ((ما اجتمعا في قلب عبدٍ في هذا الموطن إلَّا أعطاه الله ما يرجو، وأمَّنه ممَّا يخاف)).
          ولعلَّ البخاري أشار إليه في التَّرجمة، ولمَّا لم يوافق شرطه أورد ما يُؤخذ منه، وإن لم يكن له مساوياً في التَّصريح بالمقصود، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَ سُفْيَانُ) هو: ابن عيينة: (مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ) من قوله تعالى: ({لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة:68]) يعني القرآن وأوَّل الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران:64] وإنَّما كان أشد؛ لأنَّه يستلزم العلم بما في الكتب الإلهيَّة والعمل بها، وقد مرَّ في «تفسير سورة المائدة»، [خ¦65-6651] وقيل: الأخوف هو قوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131] وقيل: هو {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [المائدة:63]، وقيل: أخوف آيةٍ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123].
          ووجه المناسبة للتَّرجمة أنَّ الآية تدلُّ على أنَّ من لم يعمل بما تضمَّنه الكتاب الَّذي أُنزل عليه لم يحصل له النَّجاة، ولا ينفعه رجاؤه من غير عمل ما أُمر به، ولكن يحتمل أن يكون ذلك من الأمر الَّذي كان كُتب على من قبل هذه الأمَّة فيحصل الرَّجاء بهذه الطَّريق مع الخوف.


[1] كذا في الأصل وفي الفتح أبي عثمان الجيزي