نجاح القاري لصحيح البخاري

باب مثل الدنيا في الآخرة

          ░2▒ (بابُ: مَثَلِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ) مثل الدُّنيا، كلامٌ إضافيٌّ مبتدأ، وقوله: في الآخرة، متعلِّق بمحذوفٍ تقديره: مثل الدُّنيا بالنِّسبة إلى الآخرة، وكلمةُ «في» بمعنى: إلى، كما في قوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم:9] أي: إلى أفواهِهِم.
          وقال الطِّيبي: أي: مثل الدُّنيا في جنبِ الآخرة، والخبر محذوفٌ تقديره: كمثل لا شيءٍ، ألا ترى أنَّ قَدْرَ سَوْطٍ من الجنَّة خيرٌ من الدُّنيا وما فيها على ما يجيءُ في حديث الباب [خ¦6415].
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: هذه التَّرجمة بعض ألفاظِ حديثٍ أخرجه مسلم والتِّرمذي والنَّسائي من طريق قيس بن أبي حازمٍ عن المستورد بن شدَّاد، رفعه: ((والله ما الدُّنيا في الآخرة إلَّا مثل ما يجعلُ أحدُكم إصبعه في اليمِّ فلينظر بمَ يرجعُ)) وسنده إلى التَّابعي على شرط البخاريِّ، ولم يخرج للمستورد.
          واقتصر على ذكر حديث سهل بن سعدٍ ☻ : ((موضع سوط في الجنَّة خيرٌ من الدُّنيا وما فيها)) [خ¦6415]، فإنَّ قدر السوط من الجنَّة إذا كان خيراً من الدُّنيا فيكون الَّذي يساويها ممَّا في الجنَّة دون قدر السُّوط من الجنَّة، فيوافق ما دلَّ عليه حديث المستورد. /
          وقال القرطبيُّ: هذا نحو قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:77] وهذا بالنِّسبة إلى ذاتها، وأمَّا بالنِّسبة إلى الآخرة فلا قدر لها ولا خطر، وإنَّما أورد ذلك على سبيل التَّمثيل والتَّقريب، وإلَّا فلا نسبةَ بين المتناهي وبين ما لا يتناهَى، وإلى ذلك الإشارة بقوله: ((فلينظر بمَ يرجع)).
          ووجهه: أنَّ القدر الَّذي يتعلَّق بالإصبع من ماء البحرِ لا قدر له ولا خطر، وكذلك الدُّنيا بالنِّسبة إلى الآخرة، والحاصل: أنَّ الدُّنيا كالماء الَّذي تعلَّق بالإصبع من البحر، والآخرة كسائرِ البحر.
          تنبيه: اختلف في ياء «يرجع»، فذكر الرَّامهرمزي أنَّ أهل الكوفة رووه بالمثناة الفوقية، قال: فجعلوا الفعل للإصبع وهي مؤنَّثة، ورواه أهل البصرة بالتحتانية فجعلوا الفعل لليمِّ. قال الحافظ العسقلانيُّ: أو للواضع.
          (وَقَوْلِه تَعَالَى) بالرَّفع عطفاً على قوله: ((مثلُ الدُّنيا)) كذا قال العينيُّ، والظَّاهر أنَّه بالجر على أنَّه مدخول بابِ ({أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}) بفتح همزة «أنَّما»، فإنَّ أوَّل الآية: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الحديد:20] ولولا ما وقعَ من سياق الآية لجُوِّز أن يكون المصنِّف أرادَ الآية الَّتي في سورة القتال، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} [محمد:36] الآية.
          ({لَعِبٌ}) كلعب الصِّبيان ({وَلَهْوٌ}) كلهو الفتيان ({وَزِينَةٌ} [الحديد:20]) كزينة النِّسوان، والزِّينة: ما يُتزيَّن به ممَّا هو خارجٌ عن ذات الشَّيء ما يُحَسَّنُ به الشَّيء ({وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ}) كتفاخرِ الأقران، وهذا غالباً يكون بالنَّسب كعادة العرب ({وَتَكَاثُرٌ}) كتكاثر الدِّهْقان، والتَّكاثر: ادِّعاء الاستكثار ({فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ} [الحديد:20]) أي: مباهاة بهما حيث يقولون: نحن أكثر أموالاً وأولاداً من بني فلان، فيتفاخرون بذلك.
          قال ابن عطيَّة: المراد بالحياة الدُّنيا في هذه الآية ما يختصُّ بدار الدُّنيا من تصرُّف، وأمَّا ما كان فيها من الطَّاعة وما لا بدَّ منه ممَّا يقيمُ الأولاد، ويعين على الطَّاعة فليس مراداً هنا.
          ({كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ}) قال ابن عطيَّة: واختلف في المراد بالكفَّار، فقيل: جمع كافرٍ بالله؛ لأنَّهم أشد تعظيماً للدُّنيا وإعجاباً لمحاسنها ({نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ}) أي: يجفُّ ({فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً}) بعد خضرته ({ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً}) متفتتاً يتحطَّم، شبَّه حال الدُّنيا وسرعة تقضِّيها مع قلَّة جدوبها بنباتٍ أنبته الغيث، فاستوى وقوي وأُعجب به / الكفَّار الجاحدون لنعمةِ الله فيما رزقهم من الغيثِ والنَّبات، فبعث عليه العاهةِ، فهاج واصفرَّ وصار حطاماً عقوبةً لهم على جُحُودهم، كما فُعِل بأصحاب الجنَّة، وصاحب الجنَّتين، وقيل: المراد بهم: الزُّرَّاع، مأخوذٌ من كفر الحبَّ في الأرض؛ أي: ستره.
          قال العماد ابن كثيرٍ: أي: أُعجِب الزُّرَّاع بنبات ذلك الزَّرع الَّذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزُّرَّاع كذلك يعجبُ الحياة الدُّنيا للكفَّار، فإنَّهم أحرص شيءٍ عليها وأميل النَّاس إليها، ثمَّ يهيجُ فتراه مصفرًّا، ثمَّ يكون حطاماً؛ أي: يهيج ذلك الزَّرع فتراه مصفرًّا بعدما كان أخضر نضراً، ثمَّ يصيرُ يبساً متحطماً، هكذا الحياة الدُّنيا تكون أوَّلاً شابَّةً، ثمَّ تكتهلُ ثمَّ تكون عجوزاً شوهاءَ، والإنسان كذلك يكون في أوَّل عُمره وعنفوان شبابه غضًّا طريًّا ليِّن الأعطاف بهيَّ المنظر، ثمَّ إنَّه يشرعُ في الكهولة فتتغيَّر طباعه ويفقدُ بعض قواه، ثمَّ يكبر فيصيرُ شيخاً كبيراً ضعيفَ القوى قليل الحركة يعجزُ عن الشَّيء اليسير.
          وقال ابن عطيَّة: وصورة هذا المثال أنَّ المرءَ يولد فينشأُ فيقوى فيكسب المال والولد ويرأس، ثمَّ يأخذ بعد ذلك في الانحطاطِ فيشيب ويضعفُ ويسقمُ وتصيبه النَّوائب من مرضٍ ونقص مالٍ وعزٍّ، ثمَّ يموت فيضمحلُّ أمره ويصيرُ ماله لغيره، فحاله كحال أرضٍ أصابها مطرٌ، فنبت عليها العشب نباتاً معجَباً أنيقاً، ثمَّ هاجَ ويبس واصفرَّ، ثمَّ تحطَّم وتفرَّق إلى أن اضمحلَّ، انتهى.
          ولمَّا كان هذا المَثَل دالًّا على زوال الدُّنيا وانقضائها، والآخرة كائنةً لا محالة حذَّر من أمرها، ورغَّب فيما فيها من الخيرات، فقال: ({وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحديد:20]) أي: لأعداء الله تعالى ({وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ}) لأوليائه تعالى، قال الفرَّاء: لا يوقف على {شديدٍ}؛ لأنَّ تقدير الكلام أنَّها إمَّا عذابٌ شديدٌ، وإمَّا مغفرةٌ من الله، واستحسن غيره الوقف / على {شديدٍ} لِما فيه من المبالغة في التَّنفير من الدُّنيا، والتَّنذير للكافرين، ويبتدئ بقوله: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ}، وقيل: إنَّ قوله: { وَفِي الآخِرَةِ} قسيمٌ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}، والأوَّل صفة الدُّنيا وهي اللَّعب واللَّهو وسائر ما ورد، والثَّاني صفة الآخرة وهي عذابٌ شديدٌ لمن عصى ومغفرةٌ من الله {وَرِضْوَانٌ} لمن أطاع، وأمَّا قوله تعالى:
          ({وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]) فهو تأكيدٌ لما سبق؛ أي: تغرُّ من ركنَ إليها واعتمد عليها، وأمَّا التَّقيُّ فهي له بلاغٌ إلى الآخرة. قال ذو النُّون المصري: يا معشر المريدين لا تطلبوا الدُّنيا، وإن طلبتموها فلا تحبُّوها، فإنَّ الزَّاد منها، والمَقْيل في غيرها، ولمَّا أورد الغزالي حديث المستورد في «الإحياء» عقَّبه بأن قال ما ملخَّصه:
          واعلم أنَّ مثل أهل الدُّنيا في غفلتهم كمثل قومٍ ركبوا سفينةً، فانتهوا إلى جزيرةٍ مُعْشبةٍ، فخرجوا لقضاء الحاجة فحذَّرهم الملاح من التَّأخُّر فيها، وأمرهم أن يقيموا بقدرِ حاجتهم، وحذَّرهم أن يقلع بالسَّفينة ويتركهم، فبادر بعضهم فرجع سريعاً فصادف أحسن الأمكنة وأوسعها فاستقرَّ فيه، وانقسم الباقون فِرَقاً: الأولى: استغرقت في النَّظر إلى أزهارها المُونِقة، وأنهارها المطردة، وثمارها الطَّيبة وجواهرها ومعادنها، ثمَّ استيقظ فبادر إلى السَّفينة فلقي مكاناً دون الأوَّل فنجا في الجملة.
          الثَّانية: كالأولى لكنَّها أكبَّت على تلك الجواهر والثِّمار والأزهار ولم تسمح نفسه بتركها، فحملَ منها ما قدرَ عليه فتشاغل بجمعهِ وحملهِ فوصل إلى السَّفينة، فوجد مكاناً أضيقَ من الأوَّل، ولم تسمحْ له نفسه برمي ما استصحبَه، ثمَّ لم يلبثْ أن ذبُلت الأزهار ويبستْ تلك الثِّمار وهاجت الرِّياح فلم يجد بُداً من إلقاء ما استصحبه حتَّى نجا بخساسةِ نفسه.
          الثَّالثة: تولَّجت في الغياضِ وغفلتْ عن وصيَّة الملَّاح، / ثمَّ سمعوا نداءه بالرَّحيل فمرَّت فوجدتِ السَّفينةَ سارتْ فبقيت بما استصحبت في البرِّ حتَّى هلكتْ.
          والرَّابعة: اشتدَّت بها الغفلة عن سماع النِّداء وسارت السَّفينة فتقسموا فرقاً منهم من افترسه السِّباع بها، ومنهم من تاهَ على وجهه حتَّى هلك، ومنهم من مات جوعاً، ومنهم من نهشته الحيَّات، قال: فهذا مثل أهل الدُّنيا في اشتغالهم بحوائجهم العاجلةِ، وغفلتهِم عن عاقبةِ أمرهم.
          ثمَّ ختم بأن قال: وما أقبحَ ممَّن يزعم أنَّه بصيرٌ عاقلٌ أن يغترَّ بالأحجارِ من الذَّهب والفضَّة والهشيم من الأزهار والثِّمار، وهو لا يصحبه شيءٌ من ذلك بعد الموت والله المستعان، هذا وقد سقطَ في رواية أبي ذرٍّ من قوله: <{ وَزِينَةٌ}...> إلى آخره، وقال عقب قوله: { وَلَهْوٌ}: <إلى قوله: { مَتَاعُ الْغُرُورِ}>.