نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: الغنى غنى النفس

          ░15▒ (باب: الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) سواء كان الشَّخص متَّصفاً بالمال الكثير أو القليل، والغِنى _بالكسر_ مقصوراً، وربَّما مدَّه الشَّاعر للضَّرورة، وهو من الصَّوت ممدودٌ، والغَناء _بالفتح والمدِّ_ الكفاية.
          (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقال الله تعالى>: ({أَيَحْسِبُونَ أَنَّ مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:55-63]) وفي رواية أبي ذرٍّ: <إلى عاملون> وهذه رأس الآية التَّاسعة من ابتداء الآية المبتدأ بها هنا، والآيات الَّتي بين الأولى والثَّانية وبين الأخيرة والَّتي قبلها اعترضت في وصفِ المؤمنين.
          والآية نزلت / في الكفَّار، قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} أي: نعطيهِم ونزيدهم و«ما» بمعنى: الَّذي، وقوله: {مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} بيانٌ لـ«مـا» وهو اسم «أن»، وخبرها قوله تعالى: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:56] والعائد من خبر «أنَّ» إلى اسمها محذوفٌ تقديره: نسارع لهم به، والمعنى: أيظنُّون أنَّ هذا الإمداد مسارعة لهم في الخيرات، ومعاجلة بالثَّواب جزاء على حسن صنيعهم وخير لهم، ليس كذلك بل هو استدراجٌ لهم إلى المعاصي كما قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178]. وهذه الآية حجَّة على المعتزلة في مسألة الأصلح؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ الله تعالى لا يفعلُ بأحدٍ من الخلق إلَّا ما هو أصلحُ له في الدِّين، وقد أخبر تعالى أنَّ ذلك ليس بخيرٍ لهم في الدِّين ولا أصلح.
          وقوله: {بَل لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:56] استدراكٌ لقوله: {أَيَحْسَبُونَ} أي: بل هم أشباه البهائم لا شعور لهم حتَّى يتأمَّلوا في ذلك أنَّه استدراج، ثمَّ بيَّن المسارعين إلى الخيرات مَنْ هم؟ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57] أي: خائفون {وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:58] أي: بكتبه كلها {يُؤْمِنُونَ}: يصدِّقون ولا يفرِّقون {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59] شيئاً من الأشياء {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا} [المؤمنون:60] أي: يُعطون ما أعطوا من الزَّكاة والصَّدقة {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي: والحال أنَّ قلوبهم خائفةٌ أن لا يُقبل منهم لتقصيرهم {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] أي: لأنَّهم إلى حساب ربَّهم يرجعون {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} خبر «أن»؛ أي: يرغبون في الطَّاعات، يقال: سارعت وأسرعت بمعنىً واحد إلَّا أن سارعت أبلغ {وَهُمْ لَهَا} أي: إلى الخيرات {سَابِقُونَ} [المؤمنون:61]، يتبادرونها {لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} أي: طاقتها {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} يعني: اللَّوح المحفوظ أو صحيفة الأعمال وهو الظَّاهر {يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} يعني: يشهد بما عملوه {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [المؤمنون:62] {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون:63] إضرابٌ عن وصف المتَّقين، وشروعٌ في وصف الكفَّار؛ أي: في غفلةٍ عن الإيمان بالقرآن، قاله مقاتل. وقيل: في عَمَاية {مِنْ هَذَا} أي: من القرآن {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أي: أعمالٌ سيِّئة دون الشِّرك، وقيل: دون أعمال المؤمنين {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] إخبارٌ عمَّا يعملونه من الأعمال الخبيثة / الَّتي كُتبت عليهم لا بدَّ أن يعملوها قبل موتهم لتحقَّ عليهم كلمة العذاب.
          (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان في «تفسيره»: (لَمْ يَعْمَلُوهَا، لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا) وفي حديث ابن مسعودٍ ☺: ((فوالَّذي لا إله غيره إنَّ الرَّجل ليعمل بعملِ أهل الجنَّة حتَّى ما يكون بينه وبينها إلَّا ذراع فيسبقُ عليه الكتاب فيعملُ بعمل أهل النَّار فيدخلها)) [خ¦3208].
          ومناسبة الآية للحديث: أنَّ خيريَّة المال ليست لذاتهِ، بل بحسب ما يتعلَّق به وإن كان يسمَّى خيراً في الجملة، وكذلك صاحب المال الكثير ليس غنيًّا لذاته، بل بحسب تصرُّفه فيه، فإن كان غنيًّا في نفسه لم يتوقَّف في صرفه في الواجبات والمستحبَّات من وجوه البرِّ والقربات، وإن كان في نفسه فقيراً أمسكه وامتنعَ من بذله فيما أمر به خشيةً من نفادهِ، فهو في الحقيقة فقيرٌ صورةً ومعنى، وإن كان المال تحت يدهِ لكونه لا ينتفعُ به لا في الدُّنيا ولا في الآخرة، بل ربَّما كان وبالاً عليه.