نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس

          6412- (حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) كذا في رواية الأكثرين بالألف واللام في أوَّله، وهو اسمٌ بلفظ النَّسب، التَّيمي البلخي، وهو من الطَّبقة العليا من شيوخ البخاريِّ، وقد أخرج عنه أحمد هذا الحديث بعينه، قال: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ _هُوَ: ابْنُ أَبِي هِنْدٍ_) الضَّمير لسعيدٍ لا لعبد الله وهو من تفسير المصنِّف، ووقع في رواية أحمدٍ عن مكي ووكيع جميعاً: أخبرنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند. وعبد الله من صغار / التَّابعين؛ لأنَّه لقي بعض صغار الصَّحابة وهو أبو أُمامة بن سهلٍ (عَنْ أَبِيه) سعيد بن أبي هند الفزاري، مولى سَمُرة بن جندب، وفي رواية يحيى القطَّان عن عبد الله بن سعيدٍ: حدَّثني أبي، أخرجه الإسماعيلي.
          (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ )، وفي الرِّواية الَّتي بعدها «سمعت ابن عبَّاسٍ» [خ¦6412]، قال: (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) كذا لسائر الرُّواة. لكن عند أحمد: ((الفراغ والصِّحة)). وأخرجه أبو نُعيم في «المستخرج»: من طريق إسماعيل بن جعفر وابن المبارك ووكيع، كلُّهم عن عبد الله بن سعيدٍ: ((الصِّحة والفراغ نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس))، ولم يبيِّن لمن اللَّفظ. وأخرج الدَّارمي عن مكِّي بن إبراهيم شيخ البخاري فيه كذلك بزيادةٍ، ولفظه: ((إنَّ الصِّحة والفراغ نعمتان من نعم الله)) والباقي سواءٌ.
          وقوله: ((نعمتان)) تثنية نعمةٍ، وهي الحالةُ الحسنة الَّتي يكون عليها الإنسان كالجلسة. وقال الإمام فخر الدِّين: النِّعمة عبارةٌ عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان للغير، وقوله: ((مغبونٌ)) إمَّا مشتقٌّ من الغَبْن _بسكون الباء_ وهو النَّقص في البيع، وإمَّا من الغبَن _بفتح الباء_ وهو النَّقص في الرَّأي؛ أي: ضعيف الرَّأي.
          قال الجوهريُّ: هو في البيع بالسُّكون، وفي الرَّأي بالتَّحريك فيصحُّ كلٌّ منهما في هذا الخبر، فكأنَّه قال: هذا الأمران إذا لم يُستعملا فيما ينبغي فقد غُبِن صاحبهما؛ لكونه باعهما ببخسٍ لا يُحمد عاقبته وليس له رأيٌ في ذلك البتَّة، فإنَّ الإنسان إذا لم يعمل الطَّاعة في زمن صحَّته ففي زمن المرض بالطَّريق الأولى، وعلى ذلك حكم الفراغ من الشَّواغل بالمعاش أيضاً فيبقى بلا عملٍ خاسراً مغبوناً.
          قال ابن الجوزي: فقد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرِّغاً للعبادة لاشتغاله بأسباب المعايش وبالعكس، فإذا اجتمع الصِّحة والفراغ وقصَّر في نيل الفضائل فذلك هو الغبن كلُّ الغبن؛ لأنَّ الدُّنيا سوق الأرباح ومزرعةٌ للآخرة، وفيها التِّجارة الَّتي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحَّته / في طاعة مولاه فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون؛ لأنَّ الفراغ يعقبه الشُّغل والصِّحة يعقبها السُّقم، ولو لم يكن إلَّا الهرم كما قيل:
يَسُرُّ الْفَتَى طُولُ السَّلَامَةِ وَالْبَقَا                     فَكَيْفَ تَرَى طُولَ السَّلَامَةِ يَفْعَلُ
يَرُدُّ الْفَتَى بَعْدَ اعْتِدَالٍ وَصِحَّةٍ                     يَنُوءُ إِذَا رَامَ الْقِيَامَ وَيُحْمَل
          وقال ابن بطَّال: معنى الحديث: أنَّ المرء لا يكون فارغاً حتَّى يكون مكفياً صحيح البدن، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يُغبن بأن يترك شكرَ الله على ما أنعمَ به عليه، ومن شُكره امتثالُ أوامرِهِ واجتنابِ نواهيه، فمَن فرَّط في ذلك فهو المغبونُ وأشار بقوله: «كثيرٌ من النَّاس» إلى أنَّ الَّذي يوفَّق لذلك قليلٌ.
          وقال الطِّيبي: ضرب صلعم للمكلَّف مثلاً بالتَّاجر الَّذي له رأس مالٍ فهو يبغي الرِّبح مع سلامة رأسِ المال، فطريقه في ذلك أن يتحرَّى فيمن يعامله ويلزم الصِّدق والحذقَ لئلَّا يغبن، فالصِّحة والفراغُ رأس المال، فينبغي له أن يعاملَ الله بالإيمان ومجاهدة النَّفسِ وعدوِّ الدِّين ليربح خير الدُّنيا والآخرة، وقريبٌ منه قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] الآيات، وعليه أن يجتنبَ مطاوعة النَّفس ومعاملة الشَّيطان لئلَّا يضيع رأس ماله مع الرِّبح.
          وقوله في الحديث: ((مغبونٌ فيهما كثير من النَّاس)) كقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية.
          وقال القاضي أبو بكر ابن العربيِّ: اختلف في أوَّل نعمة الله على العبد، فقيل: الإيمان، وقيل: الحياة، وقيل: الصِّحة، والأوَّل أَولى فإنَّه نعمةٌ مطلقةٌ، وأمَّا الحياة والصِّحة فإنَّهما نعمتان دنيويَّتان ولا تكونان نعمةً حقيقيَّةً إلَّا إذا صاحبت الإيمان، وحينئذٍ يُغبن فيها كثيرٌ من النَّاس؛ أي: يذهب ربحهم أو ينقص فمن استرسل مع نفسه الأمَّارة بالسُّوء ألجأته إلى الرَّاحة، فإنَّ المشغول قد يكون له معذرةً بخلاف الفارغ فإنَّه ترتفعُ عنه المعذرة وتقوم عليه الحُجَّة، والمراد من الفراغ / هو: عدمُ ما يشغله من الأمور الدُّنيوية.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرةٌ، وقد أخرجه التِّرمذي في «الزُّهد»، والنَّسائي في «الرَّقائق»، وابن ماجه في «الزُّهد» عن عبَّاس بن عبد العظيم. وقال التِّرمذي: رواه غير واحدٍ عن عبد الله بن سعيدٍ فرفعوه، ووقفه بعضهم على ابن عبَّاسٍ ☻ وفي الباب عن أنسٍ، انتهى.
          (قَالَ عَبَّاسٌ) بتشديد الموحدة وبالمهملة، هو: ابنُ عبد العظيم (الْعَنْبَرِيُّ) أحد الحفَّاظ بصريٌّ من أوساط شيوخ البخاري (حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى) الزُّهري (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <هو ابن هندٍ>.
          (عَنْ أَبِيه) هو: سعيد السَّابق، أنَّه قال: (سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) ☻ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم : مِثْلَهُ) أي: مثل الحديث السَّابق، وقد أخرجه ابن ماجه عن العباس المذكور، فقال في كتاب «الزهد» من «السنن» في باب الحكمة منه: حدَّثنا العبَّاس بن عبد العظيم العنبريُّ، فذكره سواء.
          قال الحاكمُ: هذا الحديث صدَّر به ابنُ المبارك كتابه، وأخرجه عن عبد الله بن سعيدٍ بهذا الإسناد.
          وأخرجه الإسماعيليُّ من طريق ابن المبارك، ثمَّ من وجهين عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن سعيدٍ، ثمَّ من طريق بُنْدَار عن يحيى بن سعيدٍ القطَّان عن عبد الله بن سعيدٍ، به، ثمَّ قال [قال] بُنْدار ربما حدَّث به يحيى بن سعيدٍ ولم يرفعه. وأخرجه ابن عديٍّ من وجهٍ آخر عن ابن عبَّاسٍ مرفوعاً، وفيه زيادة: ((من نعم الله)).