نجاح القاري لصحيح البخاري

باب نفخ الصور

          ░43▒ (بابُ: نَفْخِ الصُّورِ) وهو: بضم الصاد المهملة وسكون الواو، وثبت كذلك في القراءات المشهورة والأحاديث، ورُوي عن الحسن أنَّه قرأها: بفتح الواو، جمع صورة وتأوَّله على أنَّ المراد: النَّفخ في الأجساد لتعاد إليها الأرواح. وقال أبو عبيدة في «المجاز»: يقال [الصُّوْر]: يعني بسكون الواو جمع صورة، كما يقال: سور المدينة جمع سورة. قال الشَّاعر:
لمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيرِ                     تَوَاضَعَتْ سُوَرُ المَدِينَةِ
          فيستوي معنى القراءتين، وحكى مثله الطَّبري عن قومٍ وزاد: كالصُّوف جمع صوفة، قالوا: والمراد بالنَّفخ في الصُّور وهي الأجساد لتعاد فيها الأرواح، كما قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص:72]. وتعقِّب قوله: جمع، بأنَّ الصُّور اسم جنسٍ لا جمع، وبالغ النَّحَّاس وغيره في الرَّدِّ على التَّأويل المذكور.
          وقال الأزهريُّ: إنَّه خلاف ما عليه أهل السُّنَّة والجماعة.
          وقال الحافظ العسقلاني: وقد أخرج أبو الشَّيخ في كتاب «العظمة» من طريق وهب بن منبِّه من قوله: ((خلق الله الصُّور من لؤلؤةٍ بيضاء في صفاء الزُّجاجة، ثمَّ قال: للعرشِ خذ الصُّور فتعلَّق به، ثمَّ قال: كنْ، فكان إسرافيل ◙، فأمره أن يأخذَ الصُّور فأخذه وبه ثقبٌ بعدد كلِّ روحٍ مخلوقةٍ ونفس منفوسةٍ...)) فذكر الحديث. وفيه: ((ثمَّ يجمع الأرواح كلَّها في الصُّور، ثمَّ يأمر الله ╡ إسرافيل أن ينفخَ فيه فتدخل كلُّ روحٍ في جسدها)).
          وأخرج أبو داود والتِّرمذي وحسَّنه والنَّسائي وابن حبَّان وصحَّحه والحاكم من حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص ☻ / قال: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبي صلعم فقال: ما الصُّور؟ قال: ((قرنٌ يُنفخ فيه)).
          فعلى هذا فالنَّفخ يقع في الصُّور أولاً ليصل النَّفخ بالرُّوح إلى الصُّور وهي الأجسادُ، وإضافة النَّفخ إلى الصُّور الذي هو القرن حقيقةً، وإلى الصُّور التي هي الأجساد مجازٌ، أو يقال: إنَّ الصُّور اسم القرن بلغة أهل اليمن. وشاهده قول الشَّاعر:
نَحْنُ نفخناهم غداة النَّقْعَيْنِ                     نَطحاً شَدِيداً لاَ كَنَطْحِ الصُّورَين
          (قَالَ مُجَاهِدٌ) هو: ابن جبرٍ المفسِّر: (الصُّوْرُ كَهَيْئَةِ الْبُوقِ) وصل الفريابيُّ من طريق ابن نَجيح عن مجاهدٍ قال في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف:99]، قال: كهيئة البوق. وقال الجوهريُّ: البوق الذي يزمَّر به وهو معروفٌ، ويقال: له الباطل؛ يعني: يطلق ذلك عليه مجازاً لكونه من جنسِ الباطل، قيل: كيف شبَّه الصُّور بالبوق الذي هو مذمومٌ.
          وأُجيب: بأنَّه لا مانع من ذلك ألا ترى أنَّه شبَّه صوت الوحي بصلصلةِ الجرس مع ورود النَّهي عن استصحابه، كما تقدَّم تقريره في «بدء الوحي» [خ¦2]. وقد وقع في قصَّة بدء الأذان بلفظ [خ¦604]: البوق، والقرن هي: الآلة التي تستعملها اليهود في الأذان.
          وأخرج أبو داود والتِّرمذي وحسَّنه والنَّسائي وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ☻ وقد تقدَّم الآن (1)، وأخرج التِّرمذي أيضاً وحسَّنه من حديث ابن مسعود ☺ مرفوعاً: ((كيف أنعم وصاحب الصُّور قد التقمَ القرن واستمع الإذن يُؤمر بالنَّفخ)).
          وأخرجه الطَّبراني من حديث زيد بن أرقم وابن مَردويه من حديث أبي هريرة والبيهقيُّ من حديث ابن عبَّاس ♥ وفيه: ((جبريلُ عن يمينه وميكائيل عن يساره، وهو: صاحب الصُّور)) ويعني: إسرافيل. وفي أسانيد كلٍّ منهما مقالٌ.
          وللحاكم بسندٍ حسنٍ عن يزيد بن الأصمِّ عن أبي هريرة ☺ رفعه: ((إنَّ طرف صاحب الصُّور منذ وكِّل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتدَّ إليه طرفه كأنَّ عيناه كوكبان درِّيان))(2) .
          ({زَجْرَةٌ} صَيْحَةٌ) هو من تفسير مجاهدٍ أيضاً وصله / الفريابيُّ من طريق ابنِ أبي نَجيحٍ عن مجاهد في قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} [الصافات:19] قال: صيحة. وفي قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13-14] قال: صيحة.
          قال القسطلاني والعسقلاني: وهي عبارةٌ عن نفخ الصُّور النَّفخة الثَّانية، كما عبَّر بها عن النَّفخة الأولى في قوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} [يس:49].
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : ({النَّاقُورُ}: الصُّورُ) وصله الطَّبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر:8] قال: الصُّور.
          ومعنى {نُقِر}: نُفِخ، قاله في «الأساس»، وأخرج البيهقيُّ من طريقٍ أخرى عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر:8] قال: ((قال: رسول الله صلعم كيف أنعمُ، وقد التقمَ صاحب القرن)).
          والنَّاقور: فاعول من النَّقر بمعنى: التَّصويت، وأصله القرع الذي هو سببُ الصَّوت.
          ({الرَّاجِفَةُ}) هي: (النَّفْخَةُ الأُولَى) لموت الخلق (وَ{الرَّادِفَةُ} النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ) للصَّعق والبعث، وهذا أيضاً من تفسير ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات:6-7] أي: النَّفخة الأولى تتبعها النَّفخة الثَّانية، وصله الطَّبري وابن أبي حاتم أيضاً بالسَّند المذكور، وبه جزم الفرَّاء وغيره في «معاني القرآن».
          وعن مجاهد: {الرَّاجفة}: الزَّلزلة، و{الرَّادفة}: الدَّكدكة، أخرجه الفريابيُّ والطَّبري وغيرهما عنه، ونحوه في حديث الصُّور الطَّويل. وفي رواية علي بن سعيد، ثمَّ ترتجُّ الأرض، وهي: الرَّاجفة، فتكون الأرض كالسَّفينة في البحر تضربها الأمواج، ويمكن الجمع بأنَّ الزَّلزلة تنشأُ عن نفخة الصَّعق.
          وقال الطِّيبي: الرَّاجفة: الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وصفت بما يحدث بحدوثها، والرَّادفة: الواقعة التي تردف الأولى.
          وقال الكرمانيُّ: واختلف في عددها، والأصحُّ أنَّها نفختان، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. وقيل: إنَّها ثلاث نفخاتٍ: نفخة الفزع / لقوله تعالى: و{يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} [النمل:87] الآية، فيفزع أهل السَّماء والأرض بحيث تذهلُ كلُّ مرضعةٍ عمَّا أرضعت، ثمَّ نفخة الصَّعق، ثمَّ نفخة البعث لقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. فأجيب: بأنَّ الأُوليين عائدتان إلى واحدةٍ، فزعوا إلى أن صعقوا.
          والمشهور أنَّ صاحب الصُّور: إسرافيل ◙ ونقل فيه الحَليميُّ الإجماع. فإن قلت: جاء أنَّ الذي ينفخُ في الصُّور غيره، فروى الطَّبراني في «الأوسط» عن عبد الله بن الحارث كنَّا عند عائشة ♦ فقالت: يا كعب أخبرني عن إسرافيل، فذكر الحديث، وفيه: ((وملك الصُّور جاثٍ على إحدى ركبتيه، وقد نصبَ الأخرى يلتقم الصُّور محنياً ظهره شاخصاً ببصره إلى إسرافيل، وقد أُمِر إذا رأى إسرافيل قد ضمَّ جناحيه أن ينفخَ في الصُّور)) فقالت عائشة ♦ سمعته من رسول الله صلعم . ورجاله ثقاتٌ.
          فالجواب: أنَّ فيه زيد بن جدعان وهو ضعيفٌ، فإن ثبت حُمِل على أنَّهما ينفخان. ويؤيِّده ما أخرجه هنَّاد بن السريِّ في كتاب «الزُّهد» بسندٍ صحيحٍ لكنَّه موقوفٌ على عبد الرَّحمن بن أبي عمرة قال: ما من صباحٍ إلَّا وملكان موكَّلان بالصُّور.
          ومن طريق عبد الله بن ضَمرة مثله وزاد: ((ينتظران متى يؤمران حتَّى ينفخان)). ونحوه عند أحمد من طريق سليمان التَّيمي عن أبي مرثد عن النَّبي صلعم أو عن عبد الله بن عمرو ☻ عن النَّبي صلعم قال: ((النَّافخان في السَّماء الثَّانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب أو قال: بالعكس، ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصُّور فينفخا)) ورجاله ثقات، وأخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بغير شكٍّ. وروى ابن ماجه والبزَّار من حديث أبي سعيدٍ ☺ رفعه: ((إنَّ صاحبي الصُّور بأيديهما قرنان يلاحظان النَّظر متى يؤمران ينفُخا / في الصُّور)).
          وعلى هذا قوله في حديث عائشة ♦: ((إذا رأى إسرافيلَ ضمَّ جناحيه نفخ)) أنَّه ينفخ النَّفخة الأولى، وهي: نفخة الصَّعق، ثمَّ ينفخ إسرافيل النَّفخة الثَّانية، وهي نفخةُ البعث.


[1] في الفتح (11/368):... من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء أعرابي إلى النبي صلعم فقال: مالصور؟ قال: قرن يُنفخ فيه.
[2] في هامش الأصل: كأن عيناه بالألف على لغة بني الحارث بن كعب وكنانة يعربون المثنى بالألف مطلقاً وعليه قراءة {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63].