نجاح القاري لصحيح البخاري

باب القصاص يوم القيامة

          ░48▒ (بابُ) كيفية (الْقِصَاصِ) بكسر القاف وبمهملتين، المماثلة، مأخوذٌ من القصِّ، / وهو القطع، أو من اقتصاص الأثر وهو تتبُّعه؛ لأنَّ المقتصَّ يتبع جناية الجاني؛ ليأخذ مثلها، يقال: اقتصَّ من غريمه، واقتصَّ الحاكم من فلانٍ لفلان. وفي «المُغرِب»: القصاص: مقاصة وليُّ المقتول القاتل، والمجروح الجارح، وهي: مساواته إيَّاه في قتل أو جرحٍ، ثمَّ عم في كلِّ مساواةٍ (وَهْيَ) أي: يوم القيامة (الْحَاقَّةُ؛ لأَنَّ فِيهَ الثَّوَابَ وَحَوَاقَّ الأُمُورِ) بالنَّصب؛ أي: ولأنَّ فيها ثوابت الأمور (الْحَقَّةُ وَالْحَاقَّةُ) بفتح الحاء المهملة وتشديد القاف، في الكلِّ (وَاحِدٌ) أخذه من كلام الفراء.
          قال في «معاني القرآن»: الحاقَّة: القيامة، سمِّيت بذلك؛ لأنَّ فيها الثَّواب، وحواق الأمور؛ يعني: يتحقَّق فيها الجزاء من الثَّواب والعقاب وسائر الأمور الثَّابتة الحقَّة الصَّادقة، ثمَّ قال: الحقَّة والحاقَّة كلاهما بمعنى واحدٍ. قال الطَّبري: سمِّيت الحاقَّة؛ لأنَّ الأمور تحقُّ فيها، ويحقُّ وقوعها، وهو كقولهم: ليلٌ قائم، وقال غيره: أي: الَّتي تحقُّ فيه الأمور؛ أي: تعرف حقيقتها، وقيل: سمِّيت الحاقَّة؛ لأنَّها أحقَّت لقومٍ الجنَّة، ولقومٍ النَّار، وقيل: لأنَّها لا تحاقق الكفار الذين خالفوا الأنبياء، يقال: حاققته فحققته؛ أي: خاصمتُه فخصمته، وقيل: إنَّها حقٌّ لا شكَّ فيه.
          (وَالْقَارِعَةُ) عطفٌ على «الحاقَّة»؛ يعني: أنَّها من أسماء القيامة أيضاً سمِّيت بذلك؛ لأنَّها تقرع القلوب بأهوالها، وأصل معنى القرع: الدَّقُّ، ومنه: قرع الباب، وقرع الرَّأس بالعصا (وَالْغَاشِيَةُ) يعني: أنَّها أيضاً من أسمائها؛ لأنَّها تغشى النَّاس بإفزاعها وشدائدها؛ أي: تعمُّهم بذلك (وَالصَّاخَّةُ) قال الطَّبري: أظنُّه من صخَّ فلانٌ فلاناً: إذا أصمَّه، سمِّيت بذلك؛ لأنَّ صيحة يوم القيامة مسمعةٌ لأمور الآخرة، ومصمَّةٌ عن أمور الدُّنيا، ويطلق الصَّاخة على الدَّاهية. وفي «الصَّحاح»: الصَّاخة: الصَّيحة، يقال: صخَّ الصَّوتُ الأذنَ يصخُّها صخًّا.
          (وَالتَّغَابُنُ: غَبْنُ) بفتح الغين المعجمة وسكون الموحدة بعدها نون، وهو فوت الحظِّ، والمراد: غَبْنُ (أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ) وقيل: قوله: «غبن»، فعل ماض، و«أهل الجنَّة» فاعله، و«أهل النَّار» مفعوله، والسَّبب في ذلك: أنَّ أهل الجنَّة ينزلون منازل الأشقياء الذين كانت أعدَّت لهم لو كانوا سعداء، فعلى هذا فالتَّغابن / من طرفٍ واحدٍ، ولكنَّه ذكر بهذه الصِّيغة للمبالغة.
          وقال بعض المفسِّرين: يظهر يومئذٍ غبن كل كافرٍ بتركه الإيمان، وغبن كلِّ مؤمنٍ بتقصيره في الإحسان، وتضييعه الأيام.
          وقد اقتصر المصنِّف من أسماء يوم القيامة على هذا القدر، وجمعها الغزاليُّ والقرطبيُّ، فبلغت نحو الثَّلاثين (1) اسماً، ولو أخذت بطريق الاشتقاق ممَّا ورد منصوصاً كيوم الصدر من قوله تعالى: {يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [الزلزلة:6]، ويوم الجدال من قوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] زاد على ما ذكر، والله تعالى أعلم.


[1] في هامش الأصل: في نسخة: نحو الثمانين. وكذا هو في فتح الباري (11/396)