نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما يتقى من فتنة المال

          ░10▒ (بابُ: مَا يُتَّقَى) على البناء للمفعول من الاتِّقاء (مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ) أي: الإلتهاء به، ومعنى الفتنة في كلام العرب: الاختبارُ والابتلاء، والإمالة عن القصدِ، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:73] أي: ليميلونَك، وأيضاً الإحراق، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] أي: يحرقون، قاله ابن الأنباريِّ، والابتلاء والاختبار يجمع ذلك كلَّه، فافهم.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقوله> وهو بالجرِّ عطفاً على ما قبله (تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]) أي: بلاءً ومحنةً؛ لأنَّهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاءَ أعظم منهما، ولأنَّهما تُشغلان عن الطَّاعة، وقد قال الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] أي: شغَلكم التَّكاثر، وخرج لفظ الخِطاب بذلك على العموم؛ لأنَّ الله تعالى فطرَ العباد على حبِّ المال والأولاد.
          وقد روى التِّرمذي، وابن حبَّان، والحاكم وصحَّحوه من حديث كعب بن عياض: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((إنَّ لكلِّ أمَّة فتنةٌ، وفتنة أمَّتي المال)). وله شاهدٌ مرسلٌ عند سعيد بن منصور، عن جبير بن نُفير مثله وزاد: ((ولو سِيْل لابن آدم واديان من مالٍ لتمنَّى إليه ثالثاً)) الحديث.
          وقوله: «سِيْل» _بكسر المهملة بعدها تحتية ساكنة ثم لام_ على البناء للمفعول، يقال: سال الوادي إذا جرى ماؤه.
          وأمَّا الفتنةُ بالولد / فوردَ فيه ما أخرجه أحمدُ وأصحاب السُّنن، وصحَّحه ابنُ خزيمة وابن حبَّان من حديث بُريدة ☺ قال: كان رسولُ الله صلعم يخطبُ فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يعثران، فنزلَ عن المنبرِ فحملهمَا فوضعهما بين يديه، ثمَّ قال: ((صدق الله ورسوله إنَّما أموالكم وأولادكم فتنةٌ...)) الحديث.
          وظاهر الحديث أنَّ قطع الخطبة والنُّزول لهما فتنةٌ دعا إليها محبَّة الولد، فيكون في حقِّه راجحاً، ولا يلزم من فعل الشَّيء لبيان الجواز أن لا يكون الأولى ترك فعله، ففيه تنبيهٌ على أنَّ الفتنة مراتبٌ، وأنَّ هذا من أدناها، وقد يجرُّ إلى ما فوقه فيحذر.