نجاح القاري لصحيح البخاري

باب صفة الجنة والنار

          ░51▒ (بابُ: صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) الجنَّة هي دار النَّعيم في الدَّار الآخرة، والجنَّة: البستان، والعرب تسمَّي النَّخيل: جنَّة، قال زهير:
كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ                     مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا
          فهي من الاجتنان وهو السِّتر؛ لتكاثف أشجارها وتظليلها بالتفافِ أغصانها، وسمِّيت بالجنَّة، وهي المرَّة الواحدة من مصدر جنَّه جناً: إذا ستره، فكأنَّها سترةٌ واحدةٌ لشدَّة التفافها وإظلالها.
          (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ) هو: سعدُ بن مالكٍ الخدري ☺ (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <كبد الحوت>، وقد تقدَّم هذا الحديث مطولاً في «باب: يقبضُ الله الأرض يوم القيامة» [خ¦6520]، وهو مذكورٌ هنا بالمعنى، وتقدَّم بلفظه في «بدء الخلق» [خ¦3329] من حديث أنسٍ ☺، وزيادة الكبد هي: قطعةٌ من اللَّحم متعلِّقة بالكبد، وهي ألذُّ الأطعمة وأهنأها.
          ({عَدْنٍ}: خُلْدٍ) أشار به إلى تفسير عدنٍ في قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة:72] وفسَّر العدن بقوله: خُلد، بضم الخاء. قال الجوهريُّ: / الخلد: دوام البقاء، تقول: خلد الرَّجل يخلدُ خلوداً، وأخلدَهُ الله إخلاداً، وخلَّده الله تخليداً (عَدَنْتُ بِأَرْضٍ) أي: (أَقَمْتُ) بها، أشار بها إلى أنَّ معنى العدن: الإقامة، يقال: عَدَنَ بالبلد أقام به، وهو من كلام أبي عبيدة، وقال الرَّاغب: معنى قوله: {جنَّات عدنٍ}؛ أي: الاستقرار، وعَدَنَ بمكان كذا: إذا استقرَّ به.
          (وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ) أي: ومن هذا الباب المعدن الَّذي يُستخرج منه جواهر الأرض كالذَّهب والفضَّة والنُّحاس والحديد وغير ذلك؛ لكونه مكان استقرارها (▬فِي مَعْدِنِ صِدْقٍ↨) بكسر دال معدِن؛ أي: (فِي مَنْبِتِ صِدْقٍ) كذا في رواية الأكثر، وفي رواية أبي ذرٍّ: <في مقعد صدقٍ> وهو وهمٌ. وكان سبب الوهم: أنَّه لمَّا رأى أنَّ الكلام في صفة الجنَّة، وأنَّ من أوصافها مقعد صدقٍ، كما في آخر سورة القمر: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} أي: في بساتين {وَنَهَرٍ} [القمر:54] ؛ أي: وأنهار، وإنَّما وحَّد لأجل رؤوس الآي، وقال الضَّحاك: أي: في ضياءٍ وسعةٍ، ومنه النَّهار.
          {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر:55] قال الثَّعلبي: معنى: {مقعد صدقٍ}: مجلس، حقٍّ لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنَّة، فظنُّه هنا كذلك، وقد ذكره أبو عبيدة بلفظ: «معدن صدقٍ». وأنشد الأعشى:
وَإِنْ يَسْتَضِيفُوا إِلَى حِلْمِهِ                     يُضَافُوا إِلَى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنَ
          نعم قوله ╡: {مَقْعَدِ صِدْقٍ} معناه: مكان القعود، وهو يرجعُ إلى معنى المعدن، ولمَّح المصنِّف ☼ هنا بأسماء الجنَّة وهي عشرةٌ أو تزيد: الفردوس وهو أعلاها، ودار السَّلام ودار المقام وجنَّة المأوى وجنَّة النَّعيم والمقام الأمين وعدن ومقعد صدقٍ والحسنى، وكلُّها في القرآن. وقال الله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] فعدَّ بعضُهم في أسماء الجنَّة: دار الحيوان، وفيه نظرٌ.