نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: العزلة راحة من خلاط السوء

          ░34▒ (بابٌ: الْعُزْلَةُ) أي: الانفراد (رَاحَةٌ مِنْ خُلاَّطِ السُّوءِ) لفظ التَّرجمة حديثٌ أخرجه ابنُ أبي شيبة بسندٍ رجاله ثقاتٌ عن عمر ☺ لكن في سندهِ انقطاعٌ.
          والخُلَّاط _بضم المعجمة وتشديد اللام_ في رواية الأكثر جمع خليط، وهو جمع مستغرب، وخليطُ الرَّجل: الذي يخالطُه ويعاشرهُ، وذكر الكرمانيُّ أنَّه بضم الخاء وشدة اللام، وبكسرها والتَّخفيف مصدرٌ؛ أي: المخالطة، ولم يرد بقولهِ: وبكسرها والتَّخفيف...إلى آخره أنَّه التَّرجمة، وإنَّما ذكره لزيادة الفائدة، ويحتمل أن يكون أشارَ إلى جواز الوجهين في التَّرجمة.
          وذكر الصَّغاني في «العباب» بلفظ: خُلُط، وهو بضمتين مخففاً.
          وقال الخطَّابي: الخليطُ يستوي فيه الواحد، قال الشاعر:
بَانَ الخَلَيْطُ وَلَو طَوَّعَتْ مَا بَانَا
          والجمع كقوله:
إِنَّ الْخَلِيطَ أَجَدُّوا الْبَيْنَ يَوْمَ نَأَوْا
          ويجمع على خُلُط بضمتين مخففاً، قال الشاعر:
ضَرْبًا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْجِيرَةِ الْخُلُطُ
          والرَّاحة أصله: روحة، قلبت الواو ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها.
          قال الجوهريُّ: الروح والرَّاحة من الاستراحة، وهي سكون النَّفس مع سعةٍ من غير تنكُّدٍ بشيءٍ، وهذه مادةٌ واسعةٌ تستعمل لمعانٍ كثيرة، والسُّوء: بضم السين المهملة وبفتحها.
          وفي العزلة / عن النَّاس فوائد كثيرةٌ، وأقلُّها البعد عن شرِّهم. وقال أبو الدَّرداء ☺: وجدت النَّاس أُخْبُرْ تَقْلَه(1) . أخرجه ابنُ أبي حاتم.
          وقال ابن المبارك في كتاب «الرَّقائق»: أخبرنا شعبة عن حبيب بن عبد الرَّحمن عن حفص بن عاصم: أنَّ عمر بن الخطَّاب ☺ قال: خذوا حظَّكم من العزلة. وفي رواية: قال عمر ☺: العزلةُ: راحة من خليط السُّوء، كما تقدَّم، وما أحسن قول الجُنَيد: مكابدةُ العزلة أيسرُ من مُدَاراة الخلطة. انتهى.
          وإنَّما كان كذلك لأنَّ مكابدةَ العزلة اشتغال النَّفس خاصةً، وردٌّ لها عمَّا تشتهيهِ بخلاف مُدَاراة الخلطة بالنَّاس مع اختلاف أحوالهم وأخلاقِهِم وشهواتِهِم وأغراضِهِم، وما يبدو منهم من الأذى، وما يحتاج إليه من الحلم والصَّفح.
          نعم، قد تجب الخلطة لتحصيلِ علم أو عمل.
          وقال الخطَّابي: لو لم تكن في العزلة إلَّا السَّلامة من الغِيْبة، ومن رؤية المنكر الذي لا يُقدَرُ على إزالته لكان ذلك خيراً كثيراً.
          وقال أبو القاسم القشيري: الخلوةُ صفوة أهل الصَّفوة، والعزلةُ من إمارات الوصلة، ولا بدَّ للمريد في ابتداءِ حاله من العزلة عن أبناءِ جنسه، ثمَّ في انتهائهِ من الخلوة لتحقُّقه بأُنسهِ، ومن حقِّ العبد إذا آثر العزلة أن يعتقدَ باعتزاله عن الخلق سلامة النَّاس من شرِّه. انتهى.
          وفي العزلة أيضاً: التَّفرغ للعبادة وانقطاع طمعِ النَّاس عنه، والخلاص من مشاهدةِ الثُّقلاء، والحَمقى، ويحصل بالمخالطة غالباً [الغيبة] الرِّياء والمخاصمة وسرقة الطَّبعِ الرَّذائلُ.
          وروى الطَّحاوي عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ رسول الله صلعم قال: ((ألا أخبركُم بخير النَّاس منزلاً، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: رجلٌ أخذَ بعنان فرسه في سبيل الله، وأخبركم بالذي يليه، رجل معتزلٌ في شِعْبٍ يقيم الصَّلاة ويؤتي الزَّكاة)).
          ثمَّ قال: فإن قال قائل: أين ما رُوِيَ عن النَّبي صلعم من قوله: ((المسلمُ الذي يخالط النَّاس، ويصبرُ على أذاهم خيرٌ من المسلم الذي لا يخالطُ النَّاس، ولا يصبرُ على أذاهم)).
          يجاب: بأنَّه لا تضادَّ بينهما لأنَّ قوله: «رجلٌ / أخذ بعنان فرسه»، خرجَ مخرج العموم، والمراد به الخصوص، فالمعنى فيه: أنَّه من خير النَّاس، كما ذكر غيره بمثل ذلك، فقال: ((خيرُ النَّاس من طالَ عُمره وحسُن عمله)) أو يكون المراد بتفضيلهِ في وقتٍ من الأوقات لا في كلِّ الأوقات، انتهى.
          وفي معنى التَّرجمة ما أخرجه الحاكم من حديث أبي ذرٍّ ☺ مرفوعاً بلفظ: ((الوحدةُ خيرٌ من جليس السُّوء))، وسندُه حسنٌ، لكن المحفوظ أنَّه موقوفٌ على أبي ذرٍّ ☺.


[1] قال في الكلابازي في بحر العلوم ص 20: أي إن خبرتهم قليتهم.