نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}

          ░21▒ (باب) قوله تعالى: ({وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]) أي: من يَكِلْ أمره إليه عن طمع غيره وتدبيرِ نفسه، فهو كافيه في الدَّارين جميعَ ما أهمَّه، استعمل لفظ الآية ترجمة لتضمُّنها التَّرغيب في التَّوكل، وكأنَّه أشار إلى تقييد ما أُطلق في حديث الباب الَّذي قبله، وأنَّ كلًّا من الاستغناء والتَّصبر والتَّعفف إذا كان مقروناً بالتَّوكل على الله، فهو الَّذي ينفعُ وينجع.
          وأصل التَّوكل: الوكول، يقال: وكَّلت أمري إلى فلان؛ أي: ألجأتُه وفوَّضته إليه، واعتمدتُ فيه عليه مع قطع النَّظر عن الأسباب، ووكَّل فلان فلاناً: استكفاهُ أمره ثقةً بكفايته، والمراد بالتَّوكُّل: اعتقاد ما دلَّت عليه هذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] وليس المراد به تركُ التَّسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين؛ لأنَّ ذلك قد يجرُّ إلى ضدِّ ما يراد من التَّوكل.
          وقد سُئل الإمام أحمد عن رجلٍ جلس في بيته أو في المسجد، وقال: لا أعملُ شيئاً حتَّى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجلٌ جهل العلم، فقد قال النَّبي صلعم : ((إنَّ الله جعلَ رزقي تحت ظلِّ رُمحي)) [خ¦56/88-4564]، وقال: ((لو توكَّلتم على الله حقَّ توكُّله لرزقكُم كما يرزقُ الطَّير تغدو خماصاً وتروحُ بطاناً))، فذكر أنَّها تغدو وتروحُ في طلب الرِّزق، قال: وقد كان الصَّحابة ♥ يتَّجرون ويعملون في نخيلهم، وهم القدوة، وبهم الأسوة.
          (وقَالَ الرَّبِيعُ) بفتح الراء وكسر الموحدة (ابْنُ خُثَيْمٍ) بضم الخاء المعجمة وفتح المثلثة وسكون التحتية، الثَّوري الكوفي من كبار التَّابعين، صحب ابن مسعودٍ ☺ / وكان يقول له: لو رآك رسولُ الله صلعم لأحبَّك. رواه أحمد في «الزهد» بسندٍ جيِّدٍ.
          (مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ) أراد من يتوكَّل على الله فهو حسبُه من كلِّ ما ضاقَ على النَّاس.
          وقال الكرمانيُّ: يعني التَّوكل على الله عامٌّ في كلِّ أمر مُضيّقٍ على النَّاس؛ يعني: لا خصوصيَّة له في التَّوكُّل في أمرٍ، بل هو جارٍ في جميع الأمور الَّتي تضيق على النَّاس. وصله الطَّبري وابنُ أبي حاتم من طريق الرَّبيع بن منذر الثوري، عن أبيه، عن الرَّبيع بن خُثيم، قال في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] الآية، قال: من كلِّ شيءٍ ضاقَ على النَّاس.
          والرَّبيع بن منذر لم يخرجوا عنه، لكن ذكره البخاريُّ وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحاً، وذكره ابن حبَّان في «الثقات»، وأبوه متَّفقٌ على توثيقه والتَّخريجِ عنه.